السبت، 22 أكتوبر 2022

إبليس

منمنمة عثمانية تصور إبليس على أنه رجل أسود ملتح يعتمر قبعة. محمد سياه قلم (ق 15 م)، قصر طوب قابي.
إبليس هو زعيم الشياطين في الإسلام، وبحسب القرآن، فقد طرد من الجنة بعد أن رفض السجود لآدم، وفيما يتعلق بأصله وطبيعته، فهناك وجهتا نظر مختلفتين: ففي الرواية الأولى، فإن إبليس قبل أن يطرد من السماء، كان جنيا رفيع المستوى يدعى عزازيل، وقد أمره الله بمحو العصاة الأصليين من سكان الأرض الذين استبدلوا بالبشر الأكثر طاعة، وبعد أن اعترض إبليس على قرار الله بشأن خليقته الجديدة، عوقب بالهبوط وطُرح في الأرض كشيطان، أما في الرواية الأخرى، فقد خلق الله إبليس من نار تحت الأرض السابعة، فصعد إلى سطح الأرض وهو يعبد الله لآلاف السنين، وبفضل عبوديته الراسخة وصل إلى السماء السابعة إلى جانب الملائكة، وعندما خلق الله آدم وأمر الملائكة بالسجود رفض إبليس الأمر الإلهي ما أدى إلى سقوطه.
وفي التقليد الإسلامي، غالبا ما يرمز إلى إبليس بالشيطان، وغالبا ما يعرف بلقب الرجيم بمعنى الملعون، ويشار إليه كشيطان مغو، بينما تذهب بعض الفرق الصوفية الباطنية إلى عدم اعتبار إبليس شيطانا بل الموحد الحقيقي ومن ثم فإنها تلحق نعت الشياطين بقوى الشر التي لا ينتمي إليها.
وقد يكون إسم إبليس مشتقا من الجذر اللغوي بلس بمعنى واسع "لبقي في غم" أو "يائس" وهذا هو الرأي السائد لدى العلماء العرب، قال الله تعالى في القرآن: "ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون"، وقد كان اسمه الشخصي عزازيل.
وبعض العلماء مثل عبد الكريم الجيلي (1366-1424) يربط هذا الإسم "بالتلبيس" بمعنى الارتباك، لأن أمر الله له بالسجود أربكه.
والاحتمال الآخر أنه مشتق من اليونانية διάβολος (ديابولوس) عبر وسيط سرياني، وهو أيضا مصدر الكلمة الإنجليزية "Devil"، وهناك احتمال آخر يربط هذا الإسم "ببني إلوهيم" (أبناء الرب) المتمثلين في الملائكة الساقطين في القرون المبكرة الذين تفردوا تحت إسم قائدهم.
ومع ذلك، لا يوجد اتفاق عام على جذر المصطلح، ولا يمكن العثور على الإسم نفسه في الأدب العربي الجاهلي قبل القرآن، ولكن يمكن العثور عليه في "كتاب المجول" وهو عمل مسيحي ملفق مكتوب باللغة العربية.
ويعرف إبليس في التقاليد الإسلامية بالعديد من الألقاب البديلة والكنى، مثل أبي مرة وعدو الله وأبي الحارث وأبي كردوس.
قد يكون إبليس ملاكا ساقطا أو جنيا أو مخلوقا فريدا تماما، وينشأ هذا الغموض في التحديد النهائي من نصوص القرآن نفسه، فبينما كان إبليس معنيا إلى جانب الملائكة بالأمر الإلهي بالسجود فإنه مع ذلك يُجعل من الجن، وقد برز موضوع سجود الملائكة وتمرد واحد منهم في الكتابات المسيحية المبكرة وأدب الرؤيا، ولهذا السبب يمكن للمرئ أن يفترض أن إبليس كان ملاكا، وقد يكون صامائيل هو النظير المدراشي لإبليس، فكلاهما مخلوق من نار وعارضا خليقة الله الجديدة بدافع الحسد، ويرى بول إيشلر أن القرآن حين ينعت إبليس بالجني فإنه لا يذكر خلقه من نار، وعندما يشار إلى خلقه من نار فإن الصلة بين النار التي خلق منها وتلك التي خلق منها الجن تبقى غائبة، وكلما تحدث القرآن عن النار التي خلق منها الجن نعتها بأوصاف مختلفة من قبيل أنها بلا دخان، بينما لم يتم وصف النار التي خلق منها إبليس بهذه الطريقة في القرآن. وفي تقاليد الشرق الأدنى القديمة، لم يكن الجن وحدهم المرتبطون بالنار، بل الملائكة أيضا مثل السارافيم. إن التمايز الواضح بين الملائكة وإبليس مدعوم بالعقيدة اللاهوتية اللاحقة عن العصمة الملائكية: فبما أن الملائكة ليست لديهم إرادة حرة، فهذا يجعل من الضروري أن يكون إبليس كيانا منفصلا وهو ما يفسر سقوطه كجني.
ويناقش علم الكلام دور إبليس في القرآن ومسائل الإرادة الحرة، ويؤكد بعض المتكلمين، وخاصة المعتزلة، على الإرادة الحرة وأن إبليس اختار العصيان بحرية، بينما يؤكد آخرون أن إبليس كان مقدرا عليه الوقوع في العصيان، ويذكر كمال الدين الدميري (1341-1405) أن معظم المفسرين لا يعتبرون العصيان وحده سبب عقاب إبليس بل لأنه نسب الظلم إلى الله من خلال اعتراضه على أوامره.
ووفقا لمعظم العلماء فإن إبليس مجرد مخلوق وبالتالي لا يمكن أن يكون سببا أو خالقا للشر في العالم في مهمته كشيطان، ولا ينظرون إليه إلا كمغو يستغل ضعف البشرية وتمركزها على الذات ويحاول إبعادها عن طريق الله، فإبليس ورفاقه الشياطين لا يستطيعون العمل إلا بإذن الله، ووجود الشر خلقه الله نفسه، ففكرة أن الله والشيطان مبدآن متعارضان ومستقلان رفضها علماء الدين المسلمين مثل أبي منصور الماتريدي (853-944) باعتبارها جزءا من المعتقدات المجوسية السابقة للإسلام.
كما يتميز إبليس بأنه سلف الشياطين، وبالتالي يشار إليه "بأبي الشياطين".
تصوير لإبليس من القصيدة الملحمية "الشاهنامه".
وقد ذكر إبليس 11 مرة بالإسم في القرآن، في تسع منها تعلقت برفضه لأمر الله أن يسجد لآدم، ومصطلح الشيطان يبقى أكثر انتشارا، على الرغم من أن إبليس يشار إليه أحيانا باسم الشيطان، وقد تناثرت الأجزاء المختلفة من قصة إبليس في القرآن، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
عندما خلق الله آدم، أمر الملائكة بالسجود أمام خليقته الجديدة، فسجد جميع الملائكة، لكن إبليس رفض ذلك، وحاجج أنه خلق من نار فهو أسمى من البشر الذين خلقوا من طين وأنه لا ينبغي أن يسجد لآدم. وعقابا على تكبره، طرده الله من السماء وجعل مصيره جهنم، فطلب إبليس أن ينظره الله إلى يوم القيامة وأن يمكنه من محاولة إغواء آدم وذريته، فاستجاب الله لسؤاله ولكنه حذره من أنه لن يكون له سلطان على عباده المصطافين من الرسل والأنبياء.
لوحة من مخطوطة هرات للإصدار الفارسي للبلعمي عن حوليات الطبري تصور الملائكة الذين يكرمون آدم باستثناء إبليس الذي يأبى الانصياع للأمر الإلهي. مكتبة متحف قصر طوب قابي، إسطنبول.
وهناك آراء مختلفة حول المعنى الصحيح لعبارة "بين الجن" في القرآن، ويقدم التفسير الإسلامي روايتين مختلفتين عن أصل إبليس في هذا الشأن: فوفقا لإحداها، كان إبليس ملاكا نبيلا بينما في الأخرى كان جنيا حقيرا شق طريقه إلى السماء. كما يعتبره البعض مجرد سلف للجن الذي خلق في الجنة، لكنه سقط بسبب عصيانه، وفي اللحظة التي هبط فيها آدم من الجنة بسبب خطيئته تحول إبليس إلى جني حيث كان ملاكا خلق من نار قبل ذلك.
وحسب مفسري القرآن مثل ابن عباس (619-687) ثم الطبري (839-923) ثم الأشعري (873-936) ثم الثعلبي (ت 1035) ثم البيضاوي (ت 1286) فأبي الثناء الألوسي (1802-1854)، فإن إبليس كان ملاكا في الأصل، ويصف الرازي إبليس بأنه كان من الملائكة المقربين، ووفقا لتقليد منسوب لابن عباس وابن مسعود (594-653) يستخدم مصطلح الجن في حالة إبليس للإشارة إلى الجنة، وعليه، كان إبليس وصيا إلى جانب فئة فرعية من "الملائكة الملتهبة"، ويجب تمييز هؤلاء الملائكة المخلوقين من نار عن ملائكة الرحمة المخلوقين من نور وكذا الجن الدنيوي المخلوق من نار بلا دخان "مارج من نار"، ويرى الطبرسي (1073-1153) أن إبليس إذا كان جنيا فلن يكون قادرا على الوصاية على الجنة مع الملائكة. ويقول شعبان علي أن تعريف إبليس على أنه جني هو خطأ تفسيري، والأصوب أنه لم يكن من الجن بل أصبح من الجن لاحقا وأنه كان ملاكا في البدء فصار جنيا عندما كفر، ويرى المؤيديون للأصل الملائكي لإبليس أن تحول إبليس من ملاك إلى شيطان هو بمثابة تذكير على قدرة الله المطلقة وأنه تحذير وتذكير في نفس الوقت بأن العطايا التي يمنحها قد يأخذها أيضا.
ومن ناحية أخرى، يعتبر كل من الحسن البصري (641-728) والفخر الرازي (1149-1209) وابن تيمية (1263-1328) وابن كثير (1301-1373) وسيد قطب (1906-1966) من أشهر العلماء الذين يرفضون أصل إبليس الملائكي، وينسب هذا الموقف أيضا إلى جمهور من المعتزلة، وقد عرفوا بتأكيدهم على الإرادة الحرة، وبالتالي لا يرون أن إبليس قدر له السقوط، وقد شاع هذا الرأي كذلك لدى العلماء السلفيين (مثل محمد صالح المنجد وعمر بن سليمان الأشقر) في الآونة الأخيرة.
وفي هذا الموضوع وجهان: فيقول الحسن البصري أن إبليس كان أول الجن، وبالتالي مثل آدم خُلق في الجنة وعندما أخطأ طرد هو وذريته، بينما يرى ابن كثير أن الجن عاشوا على الأرض قبل آدم، لكنه على عكس ابن عباس يجادل بإن إبليس لم يكن من الملائكة الذين يحاربون الجن، بل كان هو نفسه من الجن، وبسبب تقواه وعبادته المستمرة ارتقى إلى السماء ليكون مع الملائكة.
كما يشير العديد من العلماء إلى مسألة العصمة الملائكية، فيرون أن إبليس لا يمكن أن يكون ملاكا بسبب عدم عصمته من الخطإ، ومع ذلك يبقى هذا الرأي محل خلاف؛ فبينما جعل الحسن البصري الملائكة معصومين من كل النواقص، يقال أن أبا حنيفة (699-767) ميز بين عدة أنواع من الملائكة: الملائكة المطيعون والملائكة العصاة مثل هاروت و ماروت والكفار من الملائكة كإبليس، وبالنسبة للبعض، فإن عصيان إبليس هو جزء من مشيئة الله، وكان الله خلقه ـ بخلاف باقي الملائكة ـ من نار، فتركبت فيه طبيعة التمرد، وهذا ما جعل مهمة إغواء البشر تقع على عاتقه، تماما كما منحت الملائكة الأخرى مهام مختلفة تتناسب مع طبيعتهم.
وبينما يجعل القرآن مصير إبليس هو جهنم فإن بعض المفسرين لم يقرروا ما إذا كان إبليس في الجحيم بالفعل أو سيلقى فيه يوم القيامة، وتصفه بعض المصادر وجنوده من الشياطين بأنهم أول من يدخل الجحيم ويخلد فيه، بينما يرى آخرون أنه في جهنم بالفعل بسبب خلق الشياطين من النار، ويقترح البعض أن الشياطين لا تحترق في الجحيم، بل ستعذب في البرد القارس (الزمهرير) بدلا من النار. ويهلك إبليس قبل يوم الحساب، وتسود بين المسلمين الشيعة فكرة أن المهدي "المنتظر" سيقتل إبليس، وفي بعض كتب الأخرويات الإسلامية يكون إبليس آخر مخلوق على وجه الأرض وأن ملائكة العدل تقبض عليه وتأخذ روحه.
ويرى آخرون أن إبليس لا يتصرف وفقا لإرادته الحرة بل كأدة من أدوات الله، وعندما أنزل إبليس إلى الجحيم تم إرساله إلى "سجّين"، ولم يطلب من الله أن يعفيه من العقاب الأخروي بل طلب أن يعطيه فرصة لإثبات أنه على حق من خلال قيادة البشر إلى الخطيئة، وعليه، جعله الله مغويا للبشر، ويذكر ابن عربي (1165-1240) في كتابه "الفتوحات المكية" أن إبليس والشياطين (أو الجن الشرير) سيقولون بعد انتهاء الجحيم في اليوم الآخر، أن أفعالهم قد شرعها الله وبالتالي فهم غير ملومين عندما حاولوا إغواء البشر. وبما أن إبليس حسب القرآن ملعون إلى يوم القيامة، اعتبر البعض أنه قابل للافتداء بعد هلاك العالم، ويمكن أن يكون مأواه في الجحيم مؤقتا وبعد انتهاء مهمته كمغو قد يعود إلى الله كواحد من أعز الملائكة. وينشأ خلاصه النهائي من فكرة أن إبليس ليس سوى أداة لغضب الله، وليس بسبب شخصيته، ويقارن فريد الدين العطار (1142-1221) بين لعنة إبليس وخلاصه بقصة بنيامين بن يعقوب.
تكريم الملائكة لآدم ـ منمنمة فارسية: يظهر إبليس أسود الوجه وبدون شعر (أعلى يمين الصورة) رافضا السجود مع الملائكة الآخرين.
وقد طورت بعض الفرق الصوفية الباطنية منظورا آخر لإبليس، ودمجوه في مخطط كوني أكبر، حيث جعلوه إلى جانب محمد الرسول أحد الموحدين الحقيقيين ثم أداة الله للعقاب والغواية، لذلك يرى بعض هؤلاء أن إبليس رفض السجود لآدم لأنه كان مخلصا لله وحده وأنه رفض السجود لأي شخص آخر، ومع ذلك لا يتفق جميع الصوفيين مع خلاص إبليس.
ومن خلال إضعاف الشر في الشكل الشيطاني فإن الثنائية تتدهور أيضا، وهو ما يتوافق مع علم الكونيات الصوفية اللاحق لوحدة الوجود الرافض للميول الثنائية؛ إذ الإيمان بالثنائية ـ حسب هذا التوجه ـ أو أن للشر سببا آخر غير الله حتى لو كان ذلك بإرادته المطلقة يعتبر شركا، وبتفضيل إبليس أن يلعن في الجحيم بدلا من السجود أمام شخص آخر غير "الحبيب" (في إشارة إلى الله هنا) صار بذلك في هذا التيار نموذجا للحب النقي الذي لا ينتظر مقابلا.
ووسط هؤلاء الصوفيين الباطنيين تطور منظور إيجابي لرفض إبليس السجود لآدم بحجة أن إبليس اضطر إلى الاختيار بين "الأمر" و "الإرادة"، وعليه، رفض إبليس أن يسجد لآدم لأنه كان مخلصا لله وحده وهكذا اتبع إرادة الله الحقيقية بعصيان أمره الظاهر، ويعرف هذا الاعتقاد أيضا باسم "توحيد إبليس".
وتؤكد الرواية الشهيرة عن لقاء بين موسى وإبليس على منحدرات سيناء، رواها الحلاج (858-922) وأبو حامد الغزالي (1058-1111) و روزبهان البقلي الشيرازي (1128-1209) على نبل إبليس حيث سأل موسى إبليس لماذا رفض أمر الله فأجاب أن الأمر كان في الواقع اختبارا، ثم رد موسى من الواضح أن إبليس عوقب بالتحول من ملاك إلى شيطان، فأجاب إبليس أن شكله ذاك مؤقت لكن محبته لله دائمة.
وبالنسبة لأبي الفتوح أحمد الغزالي (1061-1126) كان إبليس نموذجا للعشاق في التضحية بالنفس لرفضه السجود لآدم من منطلق الإخلاص الخالص لله، وكان تلميذه الشيخ عدي بن مسافر الأموي (1075-1162) من بين المتصوفين المسلمين السنة الذين دافعوا عن إبليس وأكد أن الشر هو أيضا من خلق الله، ورآى أنه إذا وجد الشر بدون إرادة الله فسينسب إلى الله العجز والقصور الذي هو منزه عنه.
ورغم أن إبليس يذكر في القرآن فقط من خلال سقوطه واتجاهه لتضليل خلق الله، إلا أن دورا آخر عزي إليه كحارس لبوابة الجوهر الإلهي بناء على بعض الروايات الشفوية للصحابة، وفي بعض التفسيرات يرتبط إبليس بالنور الذي يضلل الناس، ونقل عن حسن البصري قوله: "لو أظهر إبليس نوره للبشرية لعبدوه كإله"، وذكر عين القضاة الهمداني (1097-1131) إن إبليس يمثل "النور المظلم"؛ أي العالم الترابي الذي يقف مقابل النور المحمدي الذي يمثل السماء. وعلى هذا النحو سيكون إبليس الأمين والقاضي للتفرقة بين الخطأة والمؤمنين. ويتبع عين القضاة في تفسيره سهلا التستري (818-896) وشيبان الراعي (المتوفى بين 786 و 787 تقريبا) اللذين زعما أنهما قد استمدا رأييهما من الخضر، ويربط عين القضاة تفسيره لنور إبليس بالشهادة: فالأشخاص الذين خدمتهم لله ظاهرة هم محاصرون في دائرة لا إله (الجزء الأول من الشهادة)، فهم في الواقع يعبدون أنفسهم بدلا من الله، وفقط الذين يستحقون مغادرة هذه الدائرة يمكنهم سحب إبليس نحو دائرة "إلا الله" أي "الحضور الإلهي".
ومع ذلك، لا يتفق جميع الصوفيين مع الصورة الإيجابية لإبليس، ففي رواية ابن غانم (ت 1280) عن لقاء موسى وإبليس، لا يقدم إبليس عذرا حقيقيا لعصيانه، فحججه المعروضة ضد موسى ليست سوى خدعا لجعل الصوفيين يرتابون في صحة طريقهم الروحي، ويبدو أن روزبهان البقلي انتقد إبليس أيضا، مؤكدا أن الأعذار التي قدمها كانت مجرد اختراعات للادعاء بالبراءة، وفي هذا السياق يسمي البقلي إبليس سيد الخداع الديني وأبو الكذب.
وفي كتاب المثنوي الثاني لجلال الدين الرومي (1207-1273) فإن إبليس أيقظ معاوية بن أبي سفيان لأداء الصلاة فشك معاوية في نواياه وسأله عن حقيقتها فأبدى إبليس عدة حجج لتبيان براءته فأخبره أنه كان رئيسا للملائكة وأنه لم يتخلى عن توحيد الله وأنه مجرد مختبِر يخرج شر الخطأة لتمييزهم عن المؤمنين الحقيقيين لكنه ليس شريرا، وأن قدرة الله المطلقة وخطيئة إبليس هما النتيجتان النهائيتان في دينونة الله، فانساق معاوية لحديث إبليس ونسي أن يستعيذ بالله، وفي الأخير اعترف إبليس أنه أيقظه فقط لأنه فوت الصلاة وليكون سببا في توبته التي تجعله أقرب إلى الله من الصلاة. ويرفض الرومي فكرة "توحيد إبليس" التي أكدها العديد من الصوفيين الآخرين بحجة أن إبليس إذا كان ملاكا فهذا لا يحميه من المعصية التي اجترمها.
وينظر الرومي إلى إبليس على أنه مظهر من مظاهر الخطايا العظيمة للتكبر والحسد، ويقول: "المكر من إبليس والحب من آدم"، لقد رأى فقط الشكل الأرضي الخارجي لآدم لكنه عمي عن الشرارة الإلهية المخبأة فيه عبر استخدام طريقة غير مشروعة للمقارنة.
ويرى حسن البصري أن إبليس كان أول من استخدم "القياس" مقارنا نفسه بشخص آخر، مما تسبب في خطيئته، لذلك يمثل إبليس أيضا نفسية البشر التي تتجه نحو الخطيئة أو يوضح كيف يمكن أن يسبب الحب الحسد والشجن.
ومعظم القصص عن إبليس تعتبره متورطا في معركة بين الملائكة والجن، إلا أن الروايات تختلف حول ما إذا كان إبليس من الملائكة أو من الجن في المعركة.
لوحة تظهر الطرد من الحديقة: الأشخاص الأساسيون في رواية سقوط آدم يظهرون جميعا: آدم؛ حواء؛ إبليس؛ الحية؛ الطاووس؛ الملاك رضوان ربما الذي يحرس الجنة.
وكجني، من المفترض أن إبليس عاش على الأرض قبل خلق البشر، ولما نزلت الملائكة لمحاربة الجن أخذوا أسرى من بينهم إبليس ونقلوا إلى الجنة، ولأنه على عكس الجن الآخرين كان تقيا، فقد تأثرت الملائكة بنبله، وسمح له أخيرا بالانضمام إليهم وترقيته إلى رتبتهم، ورغم حصوله على المظهر الخارجي للملائكة إلا أنه كان مايزال جنيا في جوهره، وبالتالي كان قادرا على عصيان الله فيما بعد. ثم حكم عليه بالجحيم إلى الأبد، ولكن الله منحه ـ جزاء على عبادته السابقة ـ سلطة الانتقام من البشر بمحاولة تضليلهم إلى يوم الدين.
هذه اللوحة من نسخة للفالنامه (كتاب الفأل) المنسوب إلى جعفر الصادق: يظهر إبليس بوجه أسود أسفل يسار اللوحة.
أما التقاليد التي تعتبر إبليس ملاكا فغالبا ما تصفه برئيس الملائكة (ملك مقرب) المسمى عزازيل، ووفقا لهذه القصة، كان عزازيل / إبليس زعيما وإماما (معلما) للملائكة، وأصبح وصيا على الجنة، وفي نفس الوقت كان هو الأقرب إلى عرش الله، وأعطاه الله سلطانا على السماوات السفلية والأرضين، وعندما أرسل الله الملائكة إلى الأرض لمحاربة الجن ساق عزازيل / إبليس وجيشه الجن إلى حافة العالم، إلى جبل قاف.
ومع علمه بفساد سكان الأرض السابقين، احتج إبليس عندما أمر بالسجود أمام ساكن الأرض الجديد؛ وهو آدم، وافترض أن الملائكة الذين يسبحون بحمد الله ليل نهار متفوقون على البشر المخلوقين من طين بما فيهم من عيوب ونقائص، حتى أنه اعتبر نفسه متفوقا على باقي الملائكة لأنه خلق من نار، ومع ذلك فقد انحط وحكم عليه بالجحيم "سجّين" من قبل الله لغطرسته.
ويقال أن لإبليس أربعة أجنحة وبعد أن لعن تحول شكله من ملاك إلى شيطان، وحول الله عنقه إلى رقبة خنزير ورأسه إلى رأس جمل وعيناه ممتدتان على وجهه، وتخرج من فمه أنياب خنزير، وتنبت من لحيته سبع شعرات فقط.
وبعد أن طرد من بين الملائكة جعله الله قادرا على التناسل وأثار في نفسه البغضاء فشبت منه شرارة من نار، ومن هذه الشرارة خلق الله زوجته، وفي تقاليد أخرى جعل الله إبليس خنثى وأنجب ذريته من تلقاء نفسه.
ووفقا لقصص الأنبياء، وفي سبيل دخول منزل آدم في الجنة، استعان إبليس بالثعبان التوراتي נחש للتسلل إلى هناك، وكانت الجنة محروسة من قبل وصي من الملائكة، فاخترع خطة لخداعه، فدنا من الطاووس وأخبره أن كل المخلوقات قد قدر عليها الموت وبموته سيفنى جماله، لكنه إذا مكنه من الحصول على ثمار الأبدية فسيجعل كل المخلوقات خالدة، فتمكن من إقناعه بأن يحمل الحنش الذي يتوارى فيه بمنقاره، وفي رواية مماثلة تم إبعاد إبليس بسيف رضوان المحترق مدة مائة عام، ثم وجد حنشا، وأخبره بما أنه كان أحد الشيروبيم الأوائل فسوف يعود يوما ما إلى نعمة الله ووعده بأن يبدي له الامتنان إذا ما قدم له الحنش معروفا، وفي كلتا الروايتين، يتحدث إبليس في الجنة ـ من خلال الحنش ـ إلى آدم وحواء، ويخدعهما ليأكلا من ثمار الشجرة المحرمة.
وفي سياق متصل يتهم المسلمون المعاصرون اليزيديين أو الإيزيديين بعبادة الشيطان عبر تبجيل الطاووس، وقد تكون صورة الثعبان التوراتي مستمدة من التقليد الشفوي الغنوصي واليهودي الذي انتشر قديما في شبه الجزيرة العربية.
تصوير تركي من قبل الرسام الفارسي محمد سياه قلم (ق 15 م) لمجموعة من الديفات (الشياطين) الراقصة.
ربما يكون إبليس من أشهر الكيانات الخارقة للطبيعة وقد تم تصويره في تمثيلات بصرية متعددة على خطى ما ورد في القرآن مثل مخطوطات أبي علي البلعمي (ت ح 992-997) في ترجمته لتاريخ الطبري إلى الفارسية. كان إبليس شخصا فريدا من نوعه، وصف بأنه من الجن الورع وأحيانا ملاكا قبل أن يطرد من نعمة الله بعدما رفض السجود لآدم، وبعد هذه الحادثة تحول إبليس إلى شيطان، وفي هذا المعنى صورته فرانشيسكا ليوني في تقليدها للفنون البصرية الإسلامية بجسم شبيه بالإنسان بعيون ملتهبة وذيل ومخالب وقرون كبيرة قائمة على رأس كبير غير متناسب مع حجم الجسد.
لوحة أخرى للملائكة الساجدين أمام آدم بينما يظهر إبليس بغطاء رأس وهو يرفض أمر السجود.
وغالبا ما يصور إبليس في اللوحات الإسلامية بأنه ذو وجه أسود وهي سمة ترمز إلى أي شخصية شيطانية أو مهرطق، وبجسم أسود كذلك يرمز إلى طبيعته الفاسدة، وهناك رسم شائع آخر لإبليس يظهره وهو يرتدي غطاء رأس إسلامي تقليدي، وربما تشير العمامة إلى رواية سقوط إبليس حيث كان يعتمر عمامة قبل أن يسقط من السماء، وهناك صور أخرى كثيرة تظهر إبليس وتصفه في اللحظة التي سجدت فيها الملائكة أمام آدم، حيث يقف خلف منكشف صخري بينما يتحول وجهه إلى وجه شيطان حسود ويحترق جناحاه، وغالبا ما يتم تصوير إبليس ورفاقه الشياطين في الفن التركي الفارسي على أنهم مخلوقات ذات أساور، ملتهبة العيون ومغطاة بتنانير قصيرة على غرار الفنون الأوروبية التي أخذت سمات الآلهة الوثنية لتصوير الشياطين بحيث صوروها في كثير من الأحيان بطريقة مشابهة للآلهة الهندوسية.
وخلال العصر العباسي الأول ربما كان إبليس شخصية ملهمة كراع للآداب والفنون بالنسبة للشعراء الماجنين مثل مسلم بن الوليد (748-823)، ويقال أن بعض الناس اتصلوا بإبليس كملهم مثل عبد الله بن هلال الكوفي الساحر المعروف بصديق إبليس (نهاية القرن السابع)، وكثيرا ما ذكر أبو الفضل محمد بن أحمد بن أبي جعفر الطبسي (ت 1089) إبليس (أو عزازيل) وذريته في موسوعته عن السحر في العصور الوسطى. ويقال كذلك أن إبليس يحاول إغواء المحتضرين للكفر مقابل حياتهم، ووفقا لكتاب الموتى الإسلامي يدنو إبليس متخفيا من رجل عطشان وفي يده كوب ماء فيعرض عليه الماء مقابل أن يشهد بوجود إلهين أو أنه لا يوجد خالق للكون أو أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كاذب.
وفي كتابه "الواثق" Vathek، يصف الروائي الإنجليزي ويليام بيكفورد (1760-1844) دخول الأبطال إلى العالم السفلي باعتباره "مجال إبليس"، وفي نهاية رحلتهم يقابلون إبليس شخصيا الذي يبدو بصورة أقل وحشية من شيطان دانتي وأكثر شبابا، بملامح عادية ملطخة وعينان يلمع منهما الكبرياء واليأس في نفس الآن وشعر الذي يشبه شعر ملاك نوراني.
وفي شعر محمد إقبال (1877-1938) ينتقد إبليس الطاعة المفرطة التي تسببت في سقوطه، لكنه ليس سعيدا كذلك بالولاء الذي يقدمه له بعض البشر، فهو يفضل الذين يقاومونه، فربما ألفى بينهم ذاك الإنسان الكامل ليفتدي نفسه بالسجود بين يديه.
وتصف رواية توفيق الحكيم (1898-1987) الشاهد (1953) ضرورة شر إبليس للعالم، ويحكي المؤلف من خلالها قصة خيالية عن إبليس الذي يسعى إلى التوبة فيلتمس البابا والحاخام الأعظم فيطرده كلاهما ثم يزور بعد ذلك مفتي الأزهر ويخبره أنه يريد اعتناق الإسلام لكن هذا الأخير يرفضه كذلك مدركا ضرورة شر إبليس، وبعد ذلك يتوجه إبليس إلى جبرائيل ليشفع له أمام الله، فيرفض جبرائيل ويشرح له ضرورة اللعنة الملقاة عليه، وعندئذ ينزل إبليس إلى الأرض وهو يصرخ "أنا شهيد"، وتعرضت رواية الحكيم هذه لانتقادات من قبل العديد من علماء المسلمين.
المرجع:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ثقافة بازيريك

هي ثقافة تنتمي إلى الحضارة السكيثية البدوية التي تنتمي إلى العصر الحديدي الممتد من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تم التعرف ...