المتنورون إسم يطلق على عدة مجموعات سواء كانت حقيقية أو وهمية، ويشير الإسم تاريخيا في العادة إلى المتنورين البافاريين، وهي جمعية سرية نشطت في عصر الأنوار وتأسست بتاريخ 1 ماي 1776 في بافاريا الألمانية، وكانت أهداف هذه الجمعية المعلنة هي مكافحة الخرافات والظلامية والتأثير الديني على الحياة العامة والانتهاكات التي تطال حقوق وحريات الأفراد من طرف سلطات الدولة، وقد نص القانون العام لهذه الجمعية على أن غايتها "وضع حد لمكائد دعاة الظلم، والتحكم فيهم دون الهيمنة عليهم". وقد تم حظر جمعية المتنورين إلى جانب الماسونيين الأحرار والجمعيات السرية الأخرى في بافاريا بموجب مرسوم أصدره الناخب كارل ثيودور بتحريض من الكنيسة الكاثوليكية في السنوات 1784 و 1785 و 1787 و 1790. وخلال السنوات اللاحقة، تم تشويه سمعة الجمعية من قبل الكنسيين الكاثوليك والمحافظين عموما الذين ادعوا أن المتنورين استمروا في ممارسة أنشطتهم خفية وأنهم كانوا المسؤولين عن انلاع الثورة الفرنسية.
لقد تم اعتبار العديد من المفكرين والمؤثرين السياسيين التقدميين في تلك الحقبة أعضاء في جمعية المتنورين بمن فيهم فرديناند دوق برونسويك فولفنبوتل ودوق غوتا ودوق فايمار والدبلوماسي الألماني فرانز زافير فون زاك الذي كان الرجل الثاني في بدايات هذا التنظيم، كما جذبت هذه الجمعية بعض رجال الأدب مثل يوهان غوته و يوهان جوتفريد هردر.
وتم استخدام إسم "المتنورين" في وقت لاحق للإشارة إلى عدة منظمات زعمت أنها امتداد للمتنورين البافاريين الأصليين رغم عدم وجود أدلة مباشرة تدعم هذه الروابط، وغالبا ما اتهمت هذه المنظمات بالتآمر للسيطرة على الشؤون العالمية من خلال تدبير مختلف الوقائع والأحداث الكبرى وزرع وكلاء ومندسين في مختلف الحكومات والشركات العالمية من أجل اكتساب القوة والنفوذ السياسيين اللازمين لإقامة نظام عالمي جديد. وفي قلب بعض نظريات المؤامرة الأكثر شهرة وتفصيلا تم تصوير المتنورين على أنهم يتربصون في الظل ويتحكمون في العالم بواسطة خيوط خفية، ووجدت هذه النظريات طريقها إلى الثقافات الشعبية حيث ظهرت في العديد من الروايات والأفلام والبرامج التلفزية والقصص المصورة وألعاب الفيديو ومقاطع الفيديو الموسيقية.
المتنورون الأوائل:
كان مصدر الاستنارة يتصل مباشرة بمصدر أعلى أو نتاجا لظرف واضح ومتسامي للذكاء البشري وفقا لأتباع المسيحية الباطنية في إسبانيا خلال القرنين الخامس والسادس عشر، وكان المؤرخ الإسباني مارسيلينو مينينديز إي بيلايو أول من ابتكر مصطلح "ألومينادو" مقتبسا من مصطلح ألومبرادوس Alumbrados (المستنير) المسيحي الباطني حوالي 1492، لكن المصطلح يرجع تاريخيا إلى جذور غنوصية ويعتقد أن مفهوم الاستنارة هذا تم الترويج له في إسبانيا عبر تأثيرات إيطالية، وكانت ماريا دي سانتو دومينغو التي عرفت باسم "لابياتا دي بيدراهيتا" واحدة من أوائل قادة المتنورين المبكرين، وقد ولدت في ألديانويفا لعائلة من المزارعين سنة 1485 تقريبا، وانخرطت في أسلاك الرهبنة الدومينيكانية خلال سني مراهقتها، وسرعان ما اكتسبت شهرة كبيرة كمتنبئة وصوفية يمكنها التحدث مباشرة مع يسوع المسيح والعذراء، وقد دعاها فرديناند من أراغون إلى بلاطه وصار مقتنعا بصدق رؤاها، إلا أن الرهبان الدومينيكانيين ناشدوا البابا يوليوس الثاني لإرشادها مما اعتبروه ضلالات وهرطقات وقعت فيها، وعقدت سلسلة من المحاكمات لها تحت إشراف قضاة من محاكم التفتيش، لكن رعاتها بمن فيهم فرديناند نفسه وفرانسيسكو كاردينال خيمينيز دي سيسنيروس ودوق ألبا أكدوا عدم اتخاذ أي قرار ضدها فتمت تبرئتها في عام 1510.
وكان القديس إغناطيوس دي لويولا أثناء دراسته في سالامانكا سنة 1527 قد استدعي للمثول أمام لجنة كنسية بتهمة التعاطف الألومبرادوسيين لكنه نجا من المحاكمة واكتفت اللجنة بتوبيخه، إلا أن العديد من الآخرين لم يحالفهم نفس الحظ، ففي عام 1529 تعرض جمع من الأتباع الأميين للجلد وللسجن في طليطلة، وتبعت هذه المرحلة قسوة أكبر في التعامل مع هذه الطائفة الباطنية، وعلى مدى قرن من الزمان، كان العديد من الألومبرادوسيين ضحايا لمحاكم التفتيش الإسبانية خاصة في قرطبة.
ويبدو أن تأثيرات هذا التيار الباطني وصلت إلى فرنسا قادمة من إشبيلية في عام 1623، وقد اكتسب هذا التيار بعض الأهمية في منطقة بيكاردي عندما انضم إليها في عام 1634 بيير غيران الكاهن المعالج في سان جورج دو روي والذي عرف أتباعه باسم الغيرانيين، إلا أن حركته هذه تعرضت للقمع في السنة الموالية (1635)، وظهرت مجموعة أخرى من المتنورين أو المستنيرين في جنوب فرنسا في عام 1722 ويبدو أنها استمرت في الوجود إلى حدود 1794، حيث كان لها صلات مع أولئك الذين عرفوا في الوقت نفسه باسم "الأنبياء الفرنسيين" وهو تيار من جماعة "الكاميسارد" البروتستانتيين الراديكاليين.
ومن جهة أخرى كان تنظيم الصليب الوردي الذين يدعون نشأة تنظيمهم سنة 1422 قبل أن يذيع صيتهم سنة 1537 تقريبا، وقد تضمنت تعاليمهم شيئا من الطقوس الهرمسية المصرية والغنوصية المسيحية والقبالة اليهودية والخيمياء ومجموعة متنوعة من المعتقدات والممارسات الباطنية الأخرى، وكانت أقدم وثيقة تشير إلى هذا التنظيم كتاب "الأخوية الشهيرة" الذي طبع أول مرة في عام 1614 لكن ربما تم تداوله كمخطوط قبل ذلك، ويروي هذا الكتاب رحلة المؤسس المشهور للحركة كريستيان روزنكروس إلى دمشق ودامكار (المدينة الأسطورية المخفية في شبه الجزيرة العربية) ومصر وفاس، حيث تم استقباله جيدا واكتسب الكثير من الحكمة السرية قبل أن يعود أخيرا إلى ألمانيا حيث اختار ثلاثة من تلامذته الأصفياء لينقل إليهم حكمته مما شكل اللبنة الأولى لتأسيس هذا التنظيم، وقد زاد عدد الأتباع لاحقا إلى ثمانية انفصلوا وذهب كل واحد منهم إلى بلد مختلف، وكانت إحدى المواد الست للعهد الذي اعتمدوه هي أن تظل أخويتهم سرية مدة 100 عام، وفي نهاية العام العشرين بعد المائة تم اكتشاف مكان الدفن السري وجثمان المؤسس محفوظة تماما من قبل أحد أعضاء النظام آنذاك إلى جانب بعض الوثائق والرموز التي حظيت بتقدير كبير من قبل الروزيكروسيين، وتمت إعادة تغطية السرداب المقدس وحجبه حيث فقد أثره تماما، وسعت الأخوية إلى استقطاب عدد قليل من الأعضاء ومن بين أوئلك الذين انضموا إليها الكيميائي الألماني مايكل ماير والطبيب البريطاني روبرت فلود والفيلسوف ورجل الدولة البريطاني السير فرانسيس بيكون.
الأصول:
أصبح آدم فايسهاوبت (1748-1830) أستاذا في القانون الكنسي والفلسفة العملية في جامعة إنغولشتات وكان الأستاذ الوحيد غير الكهنوتي في مؤسسة يديرها اليسوعيون الذين تم حل نظامهم من قبل البابا كليمنت الرابع عشر سنة 1773، ومع ذلك فإنهم احتفظوا في إنغولشتات بزمام الإنفاق وبعض السلطة في الجامعة التي كانوا يعتبرونها ملكا لهم، وقد حاولوا مرارا إحباط وتشويه سمعة الموظفين من خارج دائرة الإكليروس؛ خاصة عندما كانت تتضمن مقرراتهم الدراسية مواد تعتبر ذات صلة بالليبرالية أو البروتستانتية، وهكذا صار فايسهاوبت مناهضا للإكليروس بشدة، وعزم على نشر مُثُل التنوير من خلال إقامة مجتمع سري لأفراد متوافقين معه في التفكير.
وأسس آدم فايسهاوبت مجتمعه الخاص بعد أن وجد الانخراط في الماسونية مكلفا في البداية إضافة إلى عدم انفتاح الماسونيين على أفكاره، وكان مجتمعه هذا يحتوي على نظام من الرتب أو الدرجات على أساس تلك الموجودة في الماسونية ولكن وفقا لأجندته الخاصة، وكان الإسم الأصلي للنظام الجديد "ميثاق الكمال" أو "الكماليون" إلا أنه غير التسمية لاحقا. وفي الأول من مايو من عام 1776 شكل فايسهاوبت رفقة أربعة من طلابه منظمة "الكماليين"، آخذين بومة مينيرفا رمزا للمنظمة، وكان على الأعضاء استخدام أسماء مستعارة داخل المجتمع: فأصبح إسم فايسهاوبت "سبارتاكوس" وأصبح طلاب القانون ماسينهاوزن و باوهوف و ميرز و سوتر على التوالي "أياكس" و "أغاثون" و "تيبريوس" و "إيراسموس روترداموس"، إلا أنه في وقت لاحق قام فايسهاوبت بطرد الطالب سوتر بسبب تراخيه في الالتزام بقوانين المنظمة، وفي أبريل من عام 1778 أصبح إسم التنظيم "المتنورون" أو "نظام التنوير".
لقد أثبت الطالب ماسينهاوزن في البداية أنه العضو الأكثر نشاطا في توسيع مجتمع المتنورين؛ فبعد انتقاله للدراسة في ميونيخ ومضي فترة وجيزة من تشكيل النظام قام بتجنيد زافير فون زاك الذي كان تلميذا سابقا لفايسهاوبت، لكن سرعان ما تحول حماس ماسينهاوزن المفرط عائقا في نظر فايسهاوبت لأنه في كثير من المرات كان يجند مرشحين غير مناسبين، وفي وقت لاحق، جعلته حياته العاطفية غير المنتظمة مهملا في أنشطته التنظيمية، وعندما نقل فايسهاوبت إدارة مجموعة ميونيخ إلى فون زاك اتضح أن ماسينهاوزن كان يختلس أموال الانخراطات ويعترض المراسلات بين فايسهاوبت و فون زاك، وفي عام 1778 تخرج ماسينهاوزن وتولى منصبا وظيفيا خارج بافاريا ولم يعد مهتما بالتنظيم الذي كان يضم في ذلك الوقت إثني عشر عضوا إسميا.
وبرحيل ماسينهاوزن، كرس فون زاك نفسه لتجنيد أعضاء أكثر نضجا وأهمية، وكان أفضل شخص يفوز فايسهاوبت باستقطابه في هذه المرحلة هو "هيرتل" صديق الطفولة وكاهن كاتدرائية السيدة العذراء في ميونيخ، وبحلول نهاية صيف 1778، كان النظام يضم 27 عضوا ـ بمن فيهم ماسينهاوزن رغم ابتعاده ـ موزعين في خمسة فرق؛ فرقة ميونيخ "أثينا"، وفرقة إنغولشتات "إليوسيس"، وفرقة رافنسبرغ "أسبرطة"، وفرقة فرايسينغن "طيبة" ثم فرقة آيشتيت "أرضروم".
وخلال هذه الفترة المبكرة كان النظام يحتوي على ثلاث درجات فقط هي "المبتدئ" ثم "المينيرفال" ثم "المينيرفال المتنور"، وكان يعطى لكل مترشح إشارات سرية وكلمة مرور خاصة، وأبقى نظام التجسس المتبادل فايسهاوبت على علم بأنشطة وشخصية جميع أعضائه رغم أن هذا النظام كان محل انتقاد لاحقا وشكل عبئا أمام تطور المنظمة، وأصبح أعضاؤه المفضلون أفرادا في المجلس الحاكم أو "الأريوباغوس"، وسمح لبعض المبتدئين بالتجنيد ليظهروا إبداعهم، وقد تم البحث حثيثا في البداية عن المسيحيين ذوي الخلق الجيد مع استبعاد كل من اليهود والوثنيين على وجه التحديد إلى جانب النساء والرهبان وأعضاء الجمعيات السرية الأخرى، وكان المرشحون المفضلون من الأثرياء الطيعين المستعدين للتعلم والذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 30 سنة.
التحول:
قرر فايسهاوبت في الأخير الانضمام إلى النظام الماسوني القديم بعد أن كان قد أثنى ـ بصعوبة ـ بعض أعضاء تنظيمه عن الانضمام إليه في وقت سابق وذلك بهدف الحصول على الموارد اللازمة لتوسيع طقوسه الخاصة، وتم قبوله من أجل تأدية طقوس الامتثال الصارم في أوائل فبراير 1777، إلا أن تقدمه من خلال الدرجات الثلاث "للمحفل الماسوني الأزرق" لم يعلمه أي شيء عن الدرجات العليا التي سعى إلى استغلالها، وفي العام الموالي لانضمامه أخبره كاهن يدعى "آبي ماروتي" أن هذه الأسرار الداخلية تعتمد على معرفة الديانة القديمة والكنيسة البدائية وأقنعه بأن نظام المتنورين الخاص يجب أن ينبني على علاقات ودية مع الماسونية إضافة إلى الحصول على إقراربإنشاء محفل خاص بهم.
وحصل فايسهاوبت بشيء من الصعوبة على تصريح من المحفل الأكبر لبروسيا "يورك الملكية لأجل الصداقة" ليقيم محفله التنويري الخاص الذي أطلق عليه إسم "ثيودور ذو المجلس الخيِّر" بغرض الإطراء على كارل ثيودور ناخب بافاريا، وتأسس في ميونيخ في 21 مارس 1779 وسرعان ما امتلأ بالمتنورين.
وتضمنت الخطوة التالية لفايسهاوبت الاستقلال عن المحفل الأكبر لبروسيا من خلال إقامة علاقات ماسونية مع المحفل الاتحادي في فرانكفورت مباشرة؛ هذا الأخير كان منتسبا إلى المحفل الأول العظيم لإنجلترا، وأصبح محفل ثيودور أخيرا معترفا به بشكل منفصل وقادرا على إعلان استقلاله، وباعتباره "محفلا أما" جديدا أمكنه إقامة عدة محافل تابعة له، وفي هذا السياق تمخضت حملة التجنيد بين الماسونيين في فرانكفورت عن الحصول على عضوية أدولف فرايهر كنيجه.
الإصلاح وأدولف كنيجه:
الفريهر أدولف فرانز فريدريك لودفيغ كنيجه (1752-1796) أكثر عضو أسهم في نجاح تنظيم المتنورين البافاريين. |
تم استقطاب أدولف فرايهر كنيجه إلى نظام التنوير في أواخر 1780 في اجتماع طقوس الامتثال الصارم بواسطة كوستانزو مارشيسي دي كوستانزو الذي كان قبطان مشاة في الجيش البافاري وزميلا ماسونيا، وكان كنيجه الذي مايزال في العشرينات من عمره قد وصل بالفعل إلى أعلى الدرجات الابتدائية في رتبته الماسونية ويحمل خططه الكبرى للإصلاح، وبسبب خيبة أمله من عدم إيجاد دعم لمخططاته تحمس على الفور عندما أخبره دي كوستانزو أن إصلاحاته التي سعى إلى إقامتها موجودة بالفعل، وأعرب كنيجه بمعية ثلاثة من أصدقائه عن اهتمام كبير بمعرفة المزيد عن نظام المتنورين فأظهر له دي كوستانزو موادا دراسية تتعلق بدرجة المينيرفال، وكانت المادة التعليمية لهذه الدرجة هي الأدب الليبرالي المحظور في بافاريا والمعروف جيدا في الولايات الألمانية البروتستانتية مما شكل خيبة أمل لدى رفاق كنيجه الثلاثة الذين أحجموا عن الأمر، لكن كنيجه تلقى رسالة خاصة في نوفمبر 1780 من فايسهاوبت، حيث جعلت اتصالاته داخل وخارج الماسونية في نفس الوقت منه مجندا مثاليا فتعهد فايسهاوبت في رسالته بدعم اهتمامات كنيجه بالخيمياء "والعلوم العليا"، كما رد كنيجه على فايسهاوبت بالموافقة وعرض عليه خططه الخاصة لإصلاح الماسونية.
وضع فايسهاوبت على عاتق كنيجه مهمة التجنيد في محيطه قبل أن يتم قبوله في الدرجات الأعلى من نظام التنوير، ووافق كنيجه بشرط أن يسمح له باختيار معايير التجنيد الخاصة به، وقد وجد العديد من الماسونيين وصف كنيجه للنظام الماسوني الجديد جذابا فتم تسجيلهم في درجة مينيرفال إلا أن عدم قدرة كنيجه على التعبير عن أي شيء بخصوص الدرجات الأعلى شكل إحراجا لديه فكتب أخيرا إلى فايسهاوبت بهذا الخصوص، وحتى يتلافى فايسهاوبت فقدان كنيجه ومجنديه الماسونيين، إعترف أخيرا في يناير من عام 1781 أن رؤساءه والعصور القديمة المفترضة للنظام كانت محض خيال وأن الدرجات العليا لم تؤسس بعد.
وإذا كان كنيجه قد توقع من قبل أن يتعلم الأسرار العميقة الموعودة للماسونية في الدرجات العليا لنظام التنوير، فإن هدوءه كان مدهشا بشأن ما كشفه فايسهاوبت، وقد وعده هذا الأخير أن يمنحه الحرية في تأسيس الدرجات العليا وأن يرسل إليه بملاحظاته الخاصة بشأن ذلك، ومن جانبه رحب كنيجه بفرصة استغلال نظام التنوير كميدان لتطبيق أفكاره الخاصة، وادعى أن نهجه الجديد سيجعل نظام التنوير أكثر جاذبية للأعضاء المحتملين في الممالك البروتستانتية في ألمانيا.
المشاكل الداخلية:
لقد تسربت إلى نظام التنوير بعض الانقسامات الداخلية والتي سرعان ما استفحلت؛ فمنذ يوليو 1780 صارت فرقة آيشتيت شبه مستقلة كما أن الخلاف كان يتنامى بين فايسهاوبت و الآريوباغوس الذين وجدوه عنيدا ودكتاتوريا وغير منسجم، وهنا اندمج كنيجه بسهولة في دور صانع السلام بين الفرقاء المتنازعين. وفي خضم المناقشات بين الأريوباغوس و فايسهاوبت حدد كنيجه نقطتين إشكاليتين أساسيتين أمام ازدهار التنظيم وتقدمه؛ أولا تركيز فايسهاوبت غير المبرر على تجنيد طلاب الجامعات مما يعني أن المناصب العليا في الترتيب ستؤول غالبا إلى الشباب الذي يفتقد إلى خبرة عملية كافية، ثانيا الروح المعادية لليسوعيين من قبل نظام التنوير التي أصبحت تولد شعورا عاما بمعاداة الدين مما سيشكل عقبة أمام تجنيد كبار الماسونيين الذين طالما سعى نظام التنوير إلى جذبهم. لقد شعر كنيجه بالقبضة الخانقة للكاثوليكية المحافظة في بافاريا وأدرك المشاعر المعادية للدين التي خلفها هذا القمع في نفوس المتنورين الليبراليين هناك، لكنه رأى أيضا الانطباع السلبي الذي ستولده هذه المشاعر نفسها في الدول البروتستانتية رغم انفتاحها، مما يحول دون انتشار النظام في ألمانيا الكبرى بالشكل الكافي، وهكذا لم يكن أمام كل من الأريوباغوس و فايسهاوبت سوى منح كنيجه الحرية في ترميم الوضع المأزوم، وقد كانت لدى كنيجه الاتصالات اللازمة داخل وخارج الماسونية وكانت لديه المهارة كرجل طقوسي لبناء هيكلهم التدريجي المتوقع، حيث توقفوا عند الإيلوميناتوس المتنور مع درجة مينيرفال أدناه ومع أبسط التصورات للدرجات الأعلى وهي العراقيل الوحيدة التي كانت تفرض نفسها فعرض كنيجه اقتراحاته بخصوص هذه الدرجات الجديدة للإجماع عليها.
النظام الجديد:
في 20 يناير 1782 قام كنيجه بجدولة نظام الدرجات الجديد الخاص به لنظام التنوير وفق الشكل الآتي:
الدرجة الأولى ـ الاستهلال: وتتكون من المبتدئ؛ المينيرفال؛ الإيلوميناتوس الصغير.
الدرجة الثانية ـ الرتب الماسونية: وتشمل: المتمرن ثم المرافق ثم المعلم.
الدرجة الثالثة ـ الأسرار: كانت الأسرار الدنيا هي درجة الكاهن ودرجة الأمير، تليها الأسرار العليا التي تضمنت درجة الماجوس ودرجة الملك.
محاولات التوسع:
كان التجنيد الذي استهدف به كنيجه الماسونية الألمانية بعيدا عن العشوائية، فقد استهدف الأسياد والنظراء؛ أي الرجال الذين كانوا يديرون المحافل والذين كان في مقدورهم وضع محفل بأكمله تحت تصرف المتنورين، ففي آخن مثلا؛ ساهم البارون دي ويت رئيس محفل كونستانسي في انضمام كل عضو هناك إلى نظام التنوير، وبهذه الطريقة توسع النظام بسرعة في وسط وجنوب ألمانيا وحصل على موطئ قدم له في النمسا، وبحلول ربيع 1782 ازداد عدد الأعضاء إلى حوالي 300 عضو، وكان 20 فقط من المجندين الجدد طلابا.
وفي ميونيخ، شهد النصف الأول من عام 1782 تغييرات هائلة في هيكلة محفل ثيودور التنويري، ففي فبراير عرض فايسهاوبت تقسيم المحفل مع المتنورين الذين يسلكون طريقتهم الخاصة وأن يأخذ المحفل الأصغر "للسادة الناخبين" المتنورين التقليديين المتبقين في محفل ثيودور، وكان المتنورون يسيطرون كلية على محفل ثيودور ومحفل السادة الناخبين، وفي يونيو أرسل كلا المحفلين رسائل تفيد بقطع العلاقة مع المحفل الأكبر ليورك الملكية.
وفي ذلك السياق التاريخي صارت طقوس "الامتثال الصارم" محل جدل وانتقاد وكان زعيمها الإسمي هو الأمير كارل من سودرمانلاند (سيصبح لاحقا تشارلز الثالث عشر ملك السويد) والذي كان يشتبه في محاولته استيعاب هذه الطقوس ضمن الطقوس السويدية التي كان يتحكم فيها فعليا، وقد حاولت المحافل الماسونية الألمانية الحصول على زعامة الدوق فرديناند من برونسويك فولفنبوتل مما أدى إلى اجتماع مختلف الجمعيات السرية في "دير فيلهلمسباد".
مؤتمر فيلهلمسباد:
أطلال القلعة التي شيدها الأمير كارل من هسن-كاسل في متنزه فيلهلمسباد حيث عقد المؤتمر الأخير لطقوس الامتثال الصارم. |
تم تأجيل المؤتمر الأخير "للامتثال الصارم" من 15 أكتوبر 1781 إلى 16 يوليو 1782 في مدينة الحمامات "فيلهلمسباد" على مشارف هاناو، وكان المندوبون البالغ عددهم 35 واعين بأن طقوس الامتثال الصارم في شكلها الراهن محكوم عليها بالفشل وأن دير "فيلهلمسباد" سيكون محل صراع بين مختلف الغموضيين الألمان بحضور كل من زعامات الدوق فرديناند من برونزويك فولفنبوتل ومضيفهم الأمير كارل من هسن-كاسل إضافة إلى المارتينيين بقيادة جان-بابتيست ويلرموز، وكان الصوت المخالف الوحيد للدرجات الصوفية العليا هو يوهان خواكيم كريستوف بوده رغم عدم تقديمه لبدائل، إضافة إلى فرانز ديتريش فون ديتفورث، قاض من فتسلار وسيد محفل يوسف ذو الخوذ الثلاث والذي كان بالفعل عضوا في نظام المتنورين، وقد حاول هذا الأخير الحض على العودة إلى الدرجات الثلاث الأساسية للماسونية، وسمح عدم وجود بديل متماسك لدى الماسونيين والمارتينيين لتعويض الدرجات العليا للمتنورين بزعامة ديتفورث بتقديم درجاتهم كخيار موثوق فيه، واعترض محاولات ويلرموز والأمير كارل لتقديم درجاتهما العليا لكن دون طائل مما أدى إلى مغادرته لأشغال المؤتمر قبل انتهائه، وكتب لاحقا إلى الأريوباغوس أنه لم يتوقع شيئا جيدا من ذلك التجمع. وفي محاولة لإرضاء جميع الغموضيين المتصارعين اختتم مؤتمر فيلهلمسباد أشغاله دون أن يحقق سوى القليل؛ فتم التخلي عن أصول الهيكل في طقوسهم مع الاحتفاظ بألقابه علاوة على الزخارف والتنظيم الإداري، وظل كل من الأمير كارل والدوق فرديناند على رأس النظام الماسوني الألماني، رغم أن المحافل ظلت مستقلة بشكل شبه تام في الواقع، وتم تبني النظام الفرنسي لويلرموز زعيم المارتينيين والمسمى "فرسان المدينة المقدسة الخيرون"، كما دمجت بعض الطقوس الصوفية المارتينية في الدرجات الثلاث الأولى والتي كانت في ذلك الوقت الدرجات الأساسية الوحيدة للماسونية، وتم السماح للمحافل الفردية للنظام الماسوني الألماني بالتآخي مع محافل الأنظمة الأخرى، ولم تكن "الرتبة الإسكتلندية" الجديدة التي أدخلت مع طقوس ويلرموز إلزامية، فلكل منطقة الحرية في تقرير أي شيء تختاره بعد الدرجات الحرفية الثلاث، وأخيرا، وفي محاولة لإثبات أن شيئا ما قد تحقق، نظم الدير بإسهاب آداب السلوك والألقاب والترقيم الجديد للأقاليم.
ما بعد مؤتمر فيلهلمسباد:
لقد كان ما حققه دير فيلهلمسباد فعلا هو زوال طقوس الامتثال الصارم والتخلي عن أسطورتها الأصلية إلى جانب الدرجات الأعلى التي تربط أبرز أعضائها وأكثرهم نفوذا، والغيت الرقابة الصارمة التي أبقت النظام موحدا وأبعدت العديد من الألمان الذين لم يثقوا في المارتينيين، وبوده الذي صده المارتينيون دخل على الفور في مفاوضات مع كنيجه وانضم أخيرا إلى المتنورين في يناير 1783 وانضم الأمير كارل من هسن-كاسل إلى النظام في الشهر الموالي.
لقد فشلت جهود كنيجه الأولى في التحالف مع المحافل الألمانية الكبرى السليمة، لكن فايسهاوبت استمر، واقترح اتحادا جديدا حيث تمارس جميع المحافل الألمانية طقوسها ضمن نظام موحد متفق عليه في الدرجات الثلاث الأساسية للماسونية وتترك لأجهزتها الخاصة حرية التقرير بشأن أي نظام للدرجات العليا إن وجد حيث سيكون هذا اتحادا من المحافل الكبرى وسيكون الأعضاء أحرارا في زيارة أي من المحافل الزرقاء في أي ولاية قضائية، وسيتم انتخاب جميع سادة المحفل ولن يتم دفع أي رسوم لأي سلطة مركزية على الإطلاق، وستخضع مجموعات المحافل "لمديرية إسكتلندية" التي تتألف من أعضاء مفوضين من قبل المحافل لتدقيق الشؤون المالية وتسوية النزاعات وتفويض المحافل الجديدة، وهذه بدورها ستنتخب المديريات الإقليمية التي ستنتخب المفتشين الذين سيختارون المدير الوطني، وسيصحح هذا النظام عدم التوازن الحالي في الماسونية الألمانية، وإذ تم الحفاظ على المثل الماسونية للمساواة فقط في الدرجات "الرمزية" الثلاث الدنيا، فقد سيطرت النخبة على أنظمة الدرجات العليا المختلفة بسبب قدرتها على تحمل تكاليف الأبحاث في الخيمياء والروحانية، وبالنسبة لكل من فايسهاوبت و كنيجه، كان الاتحاد المقترح أيضا وسيلة لنشر التنوير في جميع أنحاء الماسونية الألمانية، وكانت نيتهما استخدام الاتحاد الجديد مع التركيز على الدرجات الأساسية لإزالة كل ولاء للامتثال الصارم، مما يسمح للنظام "الانتقائي" للمتنورين أن يحل محله.
لقد حدد التعميم الذي أعلن من قبل المتنورين عن الاتحاد الجديد عيوب الماسونية الألمانية، حيث كان يتم قبول الرجال غير المناسبين الذين يمتلكون المال على أساس ثروتهم، وأن فساد المجتمع المدني قد أصاب المحافل الماسونية، وبعد أن دافعوا عن تحرير الدرجات العليا للمحافل الألمانية، أعلن المتنورون الآن عن أنفسهم من قبل "رؤسائهم غير المعروفين"، وتم إنشاء محفل ثيودور المستقل حديثا عن يورك الملكية ليكون بمثابة محفل كبير إقليمي، واتهم كنيجه؛ في رسالة إلى جميع محافل يورك الملكية؛ هذا المحفل الكبير بالانحطاط زاعما أن اليسوعيين قد أفسدوا الماسونيين، وتمت مهاجمة "الامتثال الصارم" الآن باعتباره من ابتداع أسرة ستيوارت، وأن هذه الطقوس خالية من كل الفضائل الأخلاقية، وطقوس "زينندورف" في محفل الأرض الكبير للماسونيين الألمان كان مشتبها في تحالف مؤلفها مع السويديين، وكان لهذا الهجوم المباشر تأثير معاكس لذلك الذي ابتغاه فايسهاوبت، فقد أساء إلى العديد من متلقيه، وبحلول نهاية يناير 1783 كان لدى المجموعة الماسونية للمتنورين سبعة محافل.
الذروة:
على الرغم من عدم نجاح المتنورين في التجنيد الجماعي من خلال الماسونية إلا أنهم استمروا في التجنيد بشكل جيد على المستوى الفردي، وكانت خلافة كارل ثيودور في البداية قد أدت إلى لبرلة المبادئ والقوانين في بافاريا لكن رجال الدين بتحالف مع رجال الحاشية الذين كانوا يحرسون على سلطتهم وامتيازاتهم أقنعوا الناخب ضعيف الإرادة بوقف إصلاحاته فعاد قمع بافاريا للفكر الليبرالي، وأدى هذا الانقلاب إلى استياء عام من الناخب والكنيسة في وسط الطبقات المتعلمة، مما وفر أرضية مثالية لتجنيد المتنورين، وانضم عدد من الماسونيين من محفل برودانس الذين كانوا مستائين من الطقوس المارتينية "للفرسان الخيرين" إلى محفل ثيودور، وهكذا توسعت دوائر المتنورين في بقية ألمانيا، وتضاعفت الدائرة في ماينز تقريبا من 31 إلى 61 عضوا. وأدى رد الفعل على كاثوليكية الدولة إلى تحقيق مكاسب في النمسا وتم الحصول على موطئ قدم في وارسو البولونية و بريسبورغ (براتيسلافا) و تيرول و ميلانو و سويسرا.
وبلغ العدد الإجمالي للأعضاء الذين يمكن التحقق منهم في نهاية عام 1784 حوالي 650 عضوا. وادعى كل من فايسهاوبت و هيرتل في وقت لاحق رقم 2500. ويتم تفسير الرقم الأعلى إلى حد كبير من خلال إدراج أعضاء المحافل الماسونية التي ادعى المتنورون أنهم سيطروا عليها، ولكن من المحتمل أن أسماء جميع المتنورين غير معروفة وأن الرقم الحقيقي يتراوح بين 650 و 2500 عضوا، وتمثلت أهمية النظام في تجنيده الناجح للفئات المهنية ورجال الكنيسة والأكاديميين والأطباء والمحامين، واكتسابه مؤخرا للمتبرعين الأقوياء، فسجل انضمام كل من كارل أوغست دوق ساكسونيا فايمر أيزيناخ الكبرى، وإرنست الثاني دوق ساكسونيا غوتا ألتنبورغ مع أخيه وخليفته لاحقا أوغست كارل ثيودور أنتون ماريا فون دالبرغ حاكم إيرفورت والدوق فرديناند من برونسويك فولفنبوتل ومساعده الرئيسي في الشؤون الماسونية يوهان فريدريك فون شوارز والكونت ميترنيش من كوبلنز، وفي فيينا سجلت عضوية كل من الكونت بريجيدو حاكم غاليسيا والكونت ليوبولد كولورات ومستشار بوهيميا مع نائب المستشار البارون كريسل والكونت بالفي فون إردود مستشار المجر والكونت بانفي الحاكم والمدير العام الإقليمي في ترانسيلفانيا والكونت ستاديون السفير في لندن و بارون فون سويتن وزير التعليم العام.
لقد سجلت إخفاقات ملحوظة في التجنيد رغم ذلك مثل رفض يوهان كاسبار لافاتير الشاعر واللاهوتي السويسري لدعوة كنيجه للانضمام الذي لم يعتقد أن أهداف النظام الإنسانية والعقلانية يمكن تحقيقها بالوسائل السرية، وأصيب كريستوف فريدريش نيكولاي الكاتب والكتبي في برلين بخيبة أمل بعد انضمامه حيث وجد أن أهداف المنظمة خيالية واعتقد أن استخدام الأساليب اليسوعية لتحقيق أهداف التنظيم أمر خطير فظل منضويا في الترتيب لكنه لم يساهم في التجنيد.
الصراع مع جماعة الصليب الوردي:
كان فايسهاوبت يريد الحفاظ على سرية تنظيمه عن الروزيكروسيين مهما كلف الأمر، إلا أن هؤلاء كان لديهم موطئ قدم كبير في الماسونية الألمانية، بينما اعتبرهم البروتستانتيون الألمان مجرد جماعة أخرى مناهضة للإكليروس، كما كانوا مؤيدين للملكية ويحملون آراء تتعارض مع رؤية المتنورين للدولة العقلانية التي يديرها الفلاسفة والعلماء، كما كانوا ـ في نظر المتنورين ـ يروجون لتنظيمهم عبر جلسات احتيالية لتحضير الأرواح، وبدا أن الصراع بين الفرقتين أمر لا مفر منه خاصة بعد أن صار وجود المتنورين أكثر وضوحا وبالأخص بعد تجنيد العديد من الروزيكروسيين والصوفيين المتعاطفين معهم من قبل كنيجه، مثل الكونت كولورات الذي كان روزيكروسيا على مستوى عال، في حين لم يكن الأمير كارل من هسن-كاسل متحمسا كثيرا لدرجات المتنورين العليا العقلانية.
وهكذا بدأ الروزيكروسيون البروسيون بقيادة يوهان كريستوف فون فولنر هجوما متواصلا على المتنورين، وقد كانت لديه غرفة مصممة خصيصا لممارسة السحر الروزيكروسي حيث كان يقنع الرعاة المحتملين بتعاليم منظمته، وقد اكتسب نظامه سيطرة فعالة على المحفل الكبير "الكرات الأرضية الثلاث" والمحافل الملحقة به، واتهم فولنر المتنورين بالإلحاد والميول الثورية، وفي أبريل من عام 1783 أبلغ فريدريش العظيم ملك بروسيا كارل من هيسن أن محافل برلين بها وثائق تخص المينيرفال والإيلوميناتي والتي تحتوي على مواد مروعة وسأله عما إذا كان قد سمع بها وفي ضوء هذه المعطيات تم تحذير جميع الماسونيين في برلين من التنظيم الذي اتهم بتبنيه للعقيدة التجديدية السوسنية والاعتماد على الكتابات الليبرالية لفولتير وآخرين، إلى جانب محاولة تقويض كل الأديان، وفي نوفمبر 1783 وصف محفل الكرات الأرضية الثلاث المتنورين بأنهم طائفة ماسونية سعت إلى تقويض المسيحية وتحويل الماسونيين إلى نظام سياسي، وفي نوفمبر 1784 تم رفض الاعتراف بهم كماسونيين.
وفي النمسا تم إلقاء اللوم على المتنورين بسبب المنشورات المعادية للدين التي ظهرت مؤخرا، وتجسس الروزيكروسيون على جوزيف فون سونينفيلز وغيره من المتنورين المشتبه فيهم وحالت هذه الحملة التنديدية داخل الماسونية دون تجنيد المتنورين في تيرول.
وقد تعرض المتنورون البافاريون الذين كانوا معروفين لدى الروزيكروسيين للخيانة من قبل فرديناند ماريا بادر عضو الأريوباغوس الذي انضم إلى نظام الصليب الوردي، وبعد فترة وجيزة من قبوله تم إخبار رؤسائه في نظام التنوير أنه لا يمكن أن يبقى عضوا في كلتا المنظمتين معا.
الانشقاقات الداخلية:
عندما احتضن المتنورون الماسونية وتوسعوا خارج بافاريا تم استبدال مجلس الأريوباغوس "بمجلس المقاطعات" غير الفعال، ومع ذلك ظل الأريوباغوس يمثل أصواتا قوية داخل هذا النظام وبدؤوا مرة أخرى في الصراع مع فايسهاوبت بمجرد مغادرة كنيجه لميونيخ، ورد فايسهاوبت بالتشهير الخاص بخصومه في ذلك المجلس بواسطة رسائل كان يبعثها إلى أصدقائه.
والأخطر من ذلك نجح فايسهاوبت في تنفير كنيجه، وكان قد تنازل بالفعل عن سلطة كبيرة لفائدة كنيجه من خلال تفويضه لتدوين الطقوس وهي السلطة التي سعى الآن إلى استعادتها. لقد رفع كنيجه شأن التنظيم من ناد صغير مناهض للإكليروس إلى منظمة كبيرة وأحس أن جهده الكبير لم يتم الاعتراف به بشكل كاف.
إن مناهضة فايسهاوبت المستمرة للإكليروس تصادم مع تصوف كنيجه، وكان تجنيد الماسونيين الذين يميلون إلى الغموضية سببا للخلاف بين فايسهاوبت وغيره من كبار المتنورين مثل ديتفورث، ووصلت الأمور إلى ذروتها عند درجة الكاهن، وكان الإجماع بين العديد من المتنورين هو أن الطقوس كانت مبهرجة وسيئة التصميم، كما أن الشعارات كانت صبيانية ومكلفة ورفض البعض استخدامها بينما قام آخرون بتعديلها، فطالب فايسهاوبت كنيجه بإعادة كتابة الطقوس، وأشار كنيجه إلى أن تلك الطقوس كانت معممة على أنها طقوس قديمة بمباركة من فايسهاوبت نفسه، لكن صادف حديثه ذاك آذانا صماء، فزعم فايسهاوبت للمتنورين الآخرين أن طقوس الكاهن كانت معيبة لأن كنيجه من اخترعها، وبعد أن شعر الأخير بالإهانة، هدد بإخبار العالم عن مقدار طقوس المتنورين التي اختلقها، وباءت محاولته لخلق وفاق داخل الأريوباغوس بالفشل، حيث أن معظم أعضائه كانوا يثقون فيه أقل مما يثقون في فايسهاوبت، وفي يوليو 1784 ترك كنيجه نظام التنوير عبر اتفاق بموجبه أعاد جميع الأوراق ذات الصلة مقابل نشر فايسهاوبت تراجعا عن جميع الافتراءات ضده، وبإجبار كنيجه على الانسحاب، حرم فايسهاوبت التنظيم من أفضل المنظرين والمجندين والمدافعين عنه.
الانحدار:
جاء الانحدار النهائي للمتنورين بسبب تصرفات طائشة من بعض أفراد درجة المينيرفال في بافاريا وخاصة في ميونيخ، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها رؤساؤهم للحد من الحديث الفضفاض عن شؤون التنظيم إلا أن رغبة التباهي السياسي بالسلطة وانتقاد النظام الملكي تسبب في افتضاح أمر "التنظيم السري" لدى الجميع كما أن بروز أسماء العديد من الأعضاء المهمين ووجودهم في مناصب سياسية مهمة أدى إلى بعض القلق العام، فقد كان هناك العديد من المتنورين منخرطين في الهيئات الحكومية لمختلف مؤسسات الدولة، وتم إلقاء اللوم على المتنورين بشأن بعض المنشورات المعادية للدين التي ظهرت في بافاريا، كما أن المعاملة التفضيلية التي أعطاها بعض المسؤولين القضائيين المتنورين لإخوانهم ساهمت في تأجيج الأوضاع، وهكذا أصدر كارل ثيودور وحكومته أمرا بمنع جميع الجمعيات السرية بما فيها المتنورين من خلال مرسوم حكومي أرخ في 2 مارس 1785 الذي شكل ضربة قاضية للمتنورين في بافاريا، فهرب فايسهاوبت من بافاريا وتم الاستيلاء على مختلف الوثائق والمراسلات الداخلية في عامي 1786 و 1787 ونشرتها الحكومة لاحقا في عام 1787 نفسه، كما تم تفتيش منزل فون زاك والكشف عن الكثير من مطبوعات التنظيم بداخله.
التنويريون اللاحقون:
بعد القضاء على تنظيم فايسهاوبت في بافاريا، انتقل لقب "الإيلوميناتي" إلى المارتينيين الفرنسيين الذين أسس تنظيمهم سنة 1754 على يد مارتينيز دو باسكولي وانتشر بفضل لويس-كلود دو سان مارتان، وبحلول عام 1790، كان التنظيم قد وصل إلى روسيا بواسطة يوهان جورج شوارتز و نيكولاي نوفيكوف، وتضمنت تعاليم المارتينيين "المستنيرة" عناصر من القبالة والمسيحية الباطنية، كما تشربت بأفكار الفيلسوف والمتصوف الألماني يعقوب بوهمه والفيلسوف والصوفي والثيولوجي السويدي عمانوئيل سفيدنبوري.
بارويل و روبيسون:
تم نشر مذكرات أوغسطين بارويل بين عامي 1797 و 1798 حول تاريخ اليعاقبة إضافة إلى أدلة جون روبيسون حول النظرية القائلة بأن المتنورين قد استمروا في حبك مؤامراتهم الدولية المتواصلة، وشمل ذلك الادعاء بأنهم كانوا وراء اندلاع الثورة الفرنسية، وأصبح الكتابان شائعان وحظيا بشعبية كبيرة، مما أدى إلى إعادة طبعهما وصياغتهما من قبل الآخرين، ومن أفضل الأمثلة على ذلك كتاب الأدلة على الوجود الحقيقي والنزعة الخطيرة للتنويرية لصاحبه سيث بايسون والذي نشر عام 1802، وخلفت هذه المؤلفات بعض ردود الفعل المنتقدة مثل كتاب جان جوزيف مونييه حول التأثير المنسوب للفلاسفة والماسونيين الأحرار والمتنورين على الثورة الفرنسية.
لقد شقت أعمال روبيسون و بارويل طريقها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ونيو إنجلاند، وكان القس جيديدياه مورس الوزير والجغرافي الأبرشاني من بين الذين ألقوا خطبا ضد المتنورين، بل كانت أول المؤلفات عن المتنورين التي طبعت في الولايات المتحدة هي خطبة له ألقاها خلال موعظة يوم الصيام في 9 مايو 1798، وقد تلى هذه الخطب تقارير صحافية أشير إليها في الخطاب السياسي الحزبي الذي قاد إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية سنة 1800، إلا أن القلق العام الذي أحدثته هذه الخطب تلاشى في العقد الأول من القرن التاسع عشر رغم إحيائه من حين إلى آخر عبر الحركات المناهضة للماسونية في عشرينيات وثلاثينيات ذلك القرن.
التنويريون الجدد:
تدعي العديد من التنظيمات الأخوية الحديثة أنها تنحدر من المتنورين البافاريين الأصليين وتستخدم تسمية "المتنورين" بصفة علنية وتستخدم طقوسا ودرجات داخل تسلساتها الهرمية من قبيل "نظام التنوير" أو "المتنور" أو "نظام معبد الشرق"، ومع ذلك لا يوجد دليل على أن هذه المجموعات الحالية لها أي صلة حقيقية بنظام التنوير التاريخي، كما أنها لم تكتسب قوة أو نفوذا سياسيا ظاهريا مهما، وبدل الإبقاء على ممارساتهم سرا فإنهم قاموا بالترويج لأنفسهم من خلال صلتهم المزعومة بالمتنورين البافاريين لاجتذاب مزيد من العضويات.
الإرث:
لم يستمر نشاط المتنورين البافاريين بعد القمع الذي تعرضوا له في بلادهم، لذا وجب اعتبار ما نسب إليهم من مؤامرات من قبل الكاتبين بارويل و روبيسون مجرد ادعاءات مختلقة، ومع ذلك ظهرت العديد من نظريات المؤامرة الحديثة المبنية على استمرار نشاط المتنورين.
وجادل مؤلفو ومنظروا المؤامرة مثل مارك دايس بأن المتنورين قد استمروا حتى يومنا هذا. وتقترح العديد من نظريات المؤامرة أن الأحداث العالمية الراهنة متحكم فيها من قبل جماعة سرية تطلق على نفسها إسم المتنورين، وادعت أن العديد من المشاهير كانوا أعضاء ضمن هذه الجماعة ومنهم رؤساء للولايات المتحدة الأمريكية، ويؤكد منظرون آخرون أن تشكيلة متنوعة من الوقائع التاريخية تم التأثير فيها من قبل المتنورين مثل أحداث الثورة الفرنسية ومعركة واترلو واغتيال الرئيس الأمريكي جون إف كينيدي إلى مؤامرة شيوعية مزعومة للتسريع من ميلاد النظام العالمي الجديد، وكذلك عبر الصناعة السنيمائية في هوليود.
المراجع:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق