الاثنين، 22 يوليو 2019

نبذة عن واقع اليهود في القرون الوسطى


الفصل الثالث:
يهودية الأحبار، التلمود وعالم القرون الوسطى
من يهودية التوراة إلى يهودية الأحبار:
لقد دمر الرومان هيكل القدس، لكنهم لم يدمروا الديانة اليهودية ولا اليهود. والحقيقة أنه بالرغم من أن ضياع الهيكل الثاني سبّب ألما شديدا، مثل ما حدث في أثناء ضياع الهيكل الأول، فإن النتيجة النهائية من جراء الحرقتين كانت تقوية الشعب اليهودي وتقوية دينه مع دخول اليهود فترات النفي التي تستمر آلاف السنين. ومع التدمير الثاني (للهيكل) لم تعد الديانة مرتكزة على نظام تقديم القربان تحت إشراف كهانة وراثية، ولم تعد كذلك محصورة في مدينة مقدسة معينة ولا في الأرض المقدسة. ومن الآن فصاعدا فإن التوحيد الإلهي والنظام الأخلاقي الذي يتطلبه الإيمان بهذا التوحيد سيتم تحقيقهما في نظام ديني تقوم فيه الدراسة والعبادة الجماعية والفردية محل تقديم القرابين، وتقوم فيه الأعمال الصالحة بتعزيز الجماعة التي كان يعززها نظام سياسي في السابق. أخذ الحاخامات المتفقهون مكان الكهان الوراثيين كزعماء الجماعة وأخذ البيت والمعبد مكان الهيكل المقدس كمركز الشعائر والحياة الروحية. جاءت هذه التغييرات البنيوية المهمة بعد الانتقال التأريخي من اليهودية التوراتية إلى اليهودية الربانية (الحاخامية) لكن، بالرغم من هذه التغييرات، فإن صميم الديانة اليهودية ظل دائما كما هو. لقد حصر التوحيد الإلهي المطلق المعتقدات الدينية اليهودية، وبقيت الحياة اليهودية دائما خاضعة للتوراة – التعاليم والأوامر الإلهية ولكن، من الآن فصاعدا فإن الديانة اليهودية تكون دائما نظاما دينيا سهل الانتقال أكثر مما كانت عليه خلال الفترة التوراتية. وكانت الأشياء الوحيدة المقدسة فعلا في المنفى والشتات هي اللفائف وكتب التوراة. 


المشناة والتلمود
إن الديانة اليهودية الربانية كانت تتطور على مهل في أرض إسرائيل عدة قرون في الفترة التي كان فيها الهيكل قائما، وكان تطورها موازيا للعبادة القديمة التي كانت تقام في المعبد. فبالإضافة إلى الكتابات المقدسة – التوراة وكتب الأنبياء ومختلف الكتب الأخرى مثل المزامير، والأمثال، والأخبار، ولفائف أخرى – قد تطور رصيد من الحكمة الشفاهية في المجتمع، وانتقل هذا الرصيد من حكيم إلى تابعه، وذلك عبر أجيال كثيرة. وبقي هذا الجمع الهائل من الحكمة شفهيا مئات السنين؛ إلا أن كثيرا منه قد جمع ودون في أثناء آثار محرقة انتفاضة باركوخبا الفاشلة. تسمى هذه المجموعة من التقاليد المشناة وتشتمل في معظمها على أقوال وأفعال كبراء حكماء اليهود عدة قرون، وتعني اللفظة العبرية ״مجموعة الدراسة״. جمع المشناة ودون كتابها حوالي عام 200 ميلادي وهي مصنفة في ستة من كتب التقليد التي تحوي آراء الحكماء فيما يتعلق بكيفية تطبيق التوراة على الأفعال الإنسانية في الحياة اليومية. كتبت المشناة باللغة العبرية وكل كتاب أو صنف منها يتناول ظاهرة مختلفة من الحياة. ״زراعيم״ (بذور) تتحدث عن القضايا الفلاحية والعبادة اليومية ويتناول ״موعديم״ (الأعياد) الطقوس المطلوبة في السبت والمهرجانات اليهودية والصيام. يتناول كتاب نشيم (النساء) قانون الزواج وحقوق النساء ومسؤوليتهن وقوانين الطلاق والعهود. يتناول كتاب ״نزكيم״ (الأضرار) أنواعا مختلفة من القانون المدني والجنائي مع إرشادات أخلاقية شعبية. يسجل كتاب ״قداشيم״ (المقدسات) كثيرا من الطقوس الرسمية لهيكل القدس، ويتناول كتاب ״طهروت״ (الطهارة) مختلف أوجه الطهارة المتعلقة بالجسد والطقوس والطعام. جمعت كتب المشناة في فلسطين واستنسخت فيها ثم أرسلت إلى كل أنحاء العالم اليهودي. وأصبحت الأداة الشائعة لتطبيق القانون الإلهي الوارد في التوراة على الحياة اليومية لليهود أينما تواجدوا.
أصبحت المشناة النص الأساسي الذي يدرسه اليهود بإخلاص جنبا إلى جنب مع التوراة. ويعتبر أعلى شرف أن يكون الواحد طالبا عند أحد الحكماء، حيث يرتكز منهج الدراسة على معرفة التوراة ومناقشة المشناة. إن العديد من أجيال مناقشات المشناة، وبالخصوص في كل فلسطين وفي الجاليات اليهودية القديمة في بابل (التي تحكمها الآن أسرة فارسية مختلفة)، قد وسعت كثيرا موضوعات المناقشة. وبالفعل، قد بدأ مركز العالم اليهودي يتحول ثانية تجاه بابل (العراق الحالي) بعد تدمير الرومان ليهودا كما كان التحول إليها بعد تدمير الهيكل الأول قرونا سابقة. وما زال أعضاء الجالية اليهودية القديمة في العراق يعتبرون أنفسهم بابليين إلى يومنا هذا بالرغم من أن البابليين أنفسهم انهزموا وطردوا من السلطة قبل ما يزيد عن 2500 سنة.
مع زمن جمع المشناة سنة 200 ميلادي تغيرت لغة اليهود من العبرية إلى الآرامية القريبة منها، والتي هي اللغة المشتركة لمجمل الشرق الأوسط في ذلك الوقت. استمر معظم اليهود في معرفة العبرية والصلاة باللغة المقدسة لكن اللغة اليومية لمعظم يهود الشرق الأوسط هي اللغة الأرامية. أصبحت إذن الآرامية لغة التعليم اليهودي. استمر الحكماء اليهود وأتباعهم مدة قرنين أو ثلاثة في المناقشة وتطبيق قواعد المشناة وقوانين التوراة وازداد حجم هذه المناقشات حتى وصل مجلدا ضخما من التقليد الشفهي الذي يحفظه الإنسان بصعوبة شديدة في ذاكرته. وعندما أصبحت هذه الثروة الثقافية الشفهية واسعة جدا ومنيعة الحفظ حتى على الموهوبين دونت منها نسختان في النهاية. دونت نسخة في فلسطين حوالي بداية القرن الخامس ودونت الأخرى في بابل بعدها بمئة سنة علي وجه التقريب. نظمت النسختان بحسب المشناة وتحتويان علي كثير من المادة المشتركة، لكن التدوين البابلي أكثر شمولية وكمالا. وتسمى هاتان المدونتان، المكتوبتان بالأرامية ״الغماراه״ أو ״الختام״ لأنها تشكل تعليقات وتفسيرات إضافية على المشناة. وتشكل المشناة والغماراه معا التلمود أو ״كتاب التعليم״ المميز لليهودية الربانية. يعتبر التلمود بحرا واسعا للتقليد اليهودي الذي يطبق قوانين التوراة بتفصيل معقد على أوجه الحياة اليومية لليهودي من طقوس وشعائر والحياة المدنية والاجتماعية والشخصية والأخلاقية. 
لقد قارن بعض العلماء التلمود اليهودي بالحديث الشريف في الإسلام. وبالفعل يوجد عدد من أوجه الشبه بينهما بالرغم من وجود فوارق مهمة بينهما أيضا. لقد ظل كلاهما شفهيا عدة أجيال قبل تدوينهما. وحفظ كلاهما عددا كبيرا من المعلومات حول طريقة الحياة بحسب الإرادة الإلهية التي لم تكن بينة بشكل مباشر في نصوص التوراة أو في القرآن. كلاهما يعتبر ملزما بالرغم من أنهما ليسا مثل نص الكتاب المقدس. كلاهما يوفر أسماء الأشخاص الذين نقلوا أو شاهدوا التقليد. يشكل مصدر التقليد أحد أهم الفروقات بينهما. فبالنسبة للحديث فإن مصدر كل التقليد الملزم هو النبي. أما بالنسبة للتلمود فإن كبراء حكماء اليهودية هم مصادر التقليد الذي يقال عنه بأنه يعود في النهاية إلى جبل سيناء. تعتبر أقوال النبي محمد من الوحي الإلهي في الديانة الإسلامية وكذلك الحال بالنسبة للتلمود في الديانة اليهودية وبالتالي فهي ملزمة، لكن النظام الديني لكل منهما لا يقبل سلطة التقليد للآخر. ولا يجب أن يكون هذا غريبا نظرا لأن كل نظام ديني نشأ مستقلا عن الآخر.
لكن بالرغم من الفوارق، فإن العديد من أوجه الشبه بين التلمود والحديث أنتجت بالطبع أنظمة دينية متشابهة في عدد من التركيبات والظواهر. فالديانة اليهودية والديانة الإسلامية، مثلا، محكومتان في الغالب من قبل نظام يستهدف تنظيم السلوك البشري. يسمى ذلك النظام في الديانة اليهودية ״هالاخاة״ بينما يسمى في الديانة الإسلامية ״الشريعة״. بالرغم من أن الكلمتين ليستا مرتبطتين لغويا، فإنهما تعطيان المعنى نفسه: فالشريعة تعني ״الطريق إلى مكان الماء״ أو ״الطريق إلى المنبع״، بينما تعني هالاخاة ״طريق السير״ أو ״شيء للسير عليه״: كلاهما نظام حكم للسلوك البشري مستمد من الله عن طريق النصوص المقدسة والتقليد، ولا يعلّمان تماما السلوك نفسه لكنهما يطلبان أن نتخذ الاحتياط لنعيش حياتنا بحسب الإرادة الإلهية. يمتد هذا من الطعام الذي نضعه في أفواهنا، وإلى الكلمات التي نسمح لها بالخروج منها، وكيف نعامل أهلنا وأصدقاءنا والغرباء، وكيف نمارس الأعمال بطريقة عادلة، وكيف نصلي... وهلم جرا. لا يجب أن نستغرب من مدي التشابه والفروقات. لقد كرّس كل من اليهود والمسلمين أنفسهم قروناً عديدة، وسخروا مجهودات جبارة ومضنية للبحث عن الإرادة الإلهية في الحياة اليومية البسيطة لبني البشر. ولا بد أن تختلف خصوصيات كل نظام، لكن الرغبة والمقصود يظلان واحدا.


الديانة اليهودية في الجزيرة العربية وظهور الإسلام
دخل اليهود إلى الجزيرة العربية، بحسب المصادر الإسلامية، واستقروا هناك منذ زمن موسى. لقد ورد في كتاب الأغاني المشهور لأبي الفرج الأصفهاني عدد من الأساطير التي تفترض الأصول التأريخية ليهود الجزيرة العربية. تقترح إحدى هذه الأساطير أصول القبيلتين اليهوديتين الكبيرتين التي عرفهما محمد في المدينة. ״يسمى بنو قريظة وبنو النضير الكاهنين لأنهما منحدران من الكاهن بن هارون بن عمران (في العبرية:عمرام) أخي موسى بن عمران، صلوات الله على محمد وآله وعليهما جميعا. وقد استوطنت القبيلتان بالقرب من يثرب (اسم المدينة قبل الإسلام) بعد موت موسى عليه السلام״20. ويقترح حديث آخر أن موجة ثانية من اليهود هاجرت إلي الجزيرة العربية بعد غزو الرومان يهودا.
״واستولى الروم على كل بني إسرائيل في سورية وداسوا عليهم بأقدامهم وقتلوهم وتزوجوا نساءهم. فلما غزتهم الروم فـي سـورية، فر بنو النضير وبنو قريظـة وبـنو بهدال إلى بني إسرائيل المقيمين في الحجاز. ولما غادروا بيوتهم أرسل ملك الروم وراءهم لإعادتهم لكن ذلك كان مستـحيلا عليه بسـبب الصحراء بين سورية والحجاز ولما وصل المطاردون الرومان التمر ماتوا من العطش فلـذلك سمي ذلك المكان بتمـر الروم الذي هو اسمه إلي يومنا هذا״.
وليهود اليمن في جنوب الجزيرة العربية بعدُ تقاليد أخرى عن الأصول اليهودية. يرد أحد هذه التقاليد أصول يهود اليمن إلى اتحاد الملك سليمان مع ملكة سبأ المعروفة في المصادر الإسلامية باسم بلقيس. أنجب سليمان وبلقيس ولدا، بحسب الأسطورة، ورغب سليمان أن يتربى الطفل على الطريقة اليهودية الصحيحة، فلذلك بعث اليهود من القدس إلى أرض بلقيس حيث استقروا هناك وبنوا قلعة قرب صنعاء .
مهما تكن أصولهم، فمن الواضح أن جالية يهودية مستقرة جيدا كانت تعيش في الجزيرة العربية مع ولادة محمد، تماما كما كان المسيحيون يعيشون في شبه الجزيرة. لكن ليس واضحا تماما نوع اليهود الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربية. تشير الأدلة أنهم كانوا يمارسون شكلا من الديانة اليهودية التي لا تمثل دائما مقاييس ومعايير الديانة اليهودية الربانية كما نعرفها. إن الآية القرآنية الواردة سابقاً التي تشهد أن بعض يهود المدينة، على الأقل، يعتبرون عزيراً ابن الله، هي مثال على الأفكار غير التقليدية التي تسربت إلى معتقدات يهود الجزيرة العربية. وبعض الإشارات القرآنية الأخرى إلى معتقدات غريبة تعطي دليلا إضافيا علي الممارسة والمعتقد غير التقليدي. ورد في سورة المائدة، على سبيل المثال (5: 64): ״وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا״. يبدو أن القرآن في هذه الآية يرد على تفسيرات اليهود حول نص التوراة الذي يندب تدمير الهيكل الأول. ولقد ورد في مقطع من سفر المراثي (مراثي إرميا) (3 :2) في التوراة أن الله ״رد يمينه في حضور العدو״. هذا المقطع تعبير شعري يدعي أن إرادة الله هي التي أمرت بتدمير القدس على يد البابليين برفضها الدفاع عن المدينة لصد الغزاة. إن الله قد عاقب إسرائيل برد يمينه 22 من الدفاع عن القدس. لا يوحي هذا المقطع بأي حال من الأحوال أن الله عاجز أو ضعيف، لكن بالأحرى إن الله اختار بكل بساطة منع الحماية الإلهية.

إن تفسـير هذا المقطـع في الكتاب اليهـودي من المدراش المسمى مراثي رباه (آخِر 
2: 6) يقول: ״غلت يمين الله . لقد حددت نهاية لغل يميني. عندما أنقذ أولادي (بني إسرائيل) سأخلص يميني كما قال داود (في الزبور 60: 7) لكي يكون ممكنا إنقاذ أولئك الذين تحبهم أطلق يمينك وأجب دعوتي״. يقترح هذا التفسير مجازا لا حرفيا أن الله غل يمينه عن قصد، لكي يسبب في تدمير القدس كعقاب على ذنوب إسرائيل. ليس في هذا التفسير أي شيء غير مقبول لدى الديانة اليهودية أو لدى الديانة الإسلامية. لكن تفسيرا آخر في مجموعة من النصوص المرفوضة من قبل الديانة اليهودية تورد التصريح التالي: ״قال لي الحاخام إسماعيل: تعال معي وسأريك يُمنى الموجود المطلق (أحد الأسماء اليهودية لله) التي غلت وراءه وذلك بسبب تدمير الهيكل״ . إن التفسير الأول يفهم غل اليد الإلهية كمجاز للرفض الإلهي لحماية القدس بسبب ذنوبها. والتفسير الثاني يتجاهل الاستعارة ويدعي بكل صراحة أن يد الله عاجزة أو لا فائدة فيها بسبب خراب هيكل القدس. فالتفسيرالأول مقبول لدى الديانة اليهودية بينما الثاني ليس مقبولا. الحقيقة أن التفسير الثاني موجود في كتاب (حانوخ) كان قد رفض من قبل التقليد اليهودي. ويذم القرآن ما كان يبدو أنه التفسير الأخير، ولا بد أنه كان ينعم بعدد من الأتباع من ضمن يهود المدينة في زمن النبي. 
لماذا يحتمل أن اليهود الذين عاشوا في التيه أن يبالغوا فوق الحـدود المقبولة في الإيمان اليهودي في المدينة؟ الجواب هو أن عزلة الجزيرة العربية توفر بشكل منتظم ملاذا للذين يبحثون عن الحرية من الاضطهاد. لدينا معلومات، مثلا، أن الجماعات المسيحية الأولى وجدت ملجأ من المضايقات الرومانية في مختلف مناطق صحراء الجزيرة العربية، وقد نجت جماعات لاحقة من الإجبار العقائدي للإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية في مأمن شبه الجزيرة العربية. كان هؤلاء من المسيحيين غير الأرثوذكسيين الذين بحثوا عن الأمان في الجزيرة العربية من أجل أن يعيشوا بحسب معتقداتهم دون إزعاج. وبالرغم من أننا نملك عن يهود هذه الفترة وثائق أقل من تلك التي نملكها عن المسيحيين، يحتمل جدا أن الجماعات اليهودية الهامشية قد قامت بمثل ما قامت به الجماعات المسيحية من أجل الإفلات من النظام اليهودي القائم، وأن جماعة أو أكثر قد استقرت في المدينة.
ألقى القرآن والسيرة النبوية بعض الضوء المهم على يهود المدينة والديانة التي كانوا يمارسونها. قد يبدو غريبا عند بعضهم معرفة أن يهود المدينة قد شجعوا في الواقع بعض وثنيي العرب وربما كثيرا منهم علي اتباع محمد والدخول في الإسلام. لقد أورد كاتب السيرة النبوية الكبير محمد بن إسحاق هذا الحديث:

״حدثنا عاصـم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: 
قال رسول الله عندما لقيهم: ״من أنتم؟״ قالوا: ״من الخزرج״ (قبيلة مـن المدينة). ״هل أنتم في حلف مـع اليهــود؟״ قالوا: نعم. قال: ״هلا جلستم لأحدثكم؟״ قالوا: ״أجل״ فجلسوا إليه ودعاهم إلى الله وشرح لهم الإسلام، وقرأ عليهم القرآن. قالوا: ״إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمة الله تعالى وهداه ما كنا نسمع من رجال يهود. كنا أهل شرك وأصـحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننـا وبينهم شرور. فإذا نلنا منهم بعـض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتـل عاد وإرم. فكثيرا ما نسمـع ذلك منهم״. فلما تحـدث رسول الله مع القوم قال بعضهم لبعض: ״والله إن هذا لهو النبي الذي كانوا يتوعدوننا به، فبادروا إليه قبلهم وأجابوه حين دعاهم، فآمنوا به ودخلوا في الإسلام״ .
يسجل هذا الحديث المهم انتظار اليهود لمشيح (المسيح المنتظر)، منقذ يشيرون اليه بالنبي. بالرغم من أن اليهود لم يقصدوا تشجيع جيرانهم العرب من الوثنيين ليصبحوا مسلمين، إلا أن تأثيرهم الديني في المدينة خلق بيئة جعلت عرب ما قبل الإسلام منفتحين على فكرة نبي عربي. وكون محمد أهلا بهذا الدور واضح من النجاح الباهر الذي لقيه في المدينة.
حفظ ابن إسحاق حديثا آخر يلقي ضوءا أكثر على نظرة اليهود لمحمد من حديث: سلمة بن سلامة بن وقش – وكان سلمة من أصحاب بدر – قال (كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل؛ قال فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا، علَيَّ بردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي – فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، قال فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد المـوت، فقالوا له ويحك يا فلان أوترى هذا كائنا، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال نعم والذي يحلف به، ويود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطيعونه عليه بأن ينجو من تلك النارغدا، فقالوا له ويحك يا فلان فما آية ذلك؟ قال نبي مبعوث من نحو هذه البلاد – وأشار بيده إلى مكة واليمن – فقالوا: ومتى تراه؟ قال فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا، فقال إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا 
رسوله – صلى الله عليه وسلم – وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكَفَر به بغيا وحسدا. قال فقلنا له ويحك يافلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال بلى ولكن ليس به)26.

كان يهود المدينة يعلمون عددا من المعتقدات الدينية المشتركة بين اليهودية والإسلام. تشتمل هذه المعتقدات على يوم الحساب والجنة والنار في الآخرة؛ وكان بعضهم على الأقل، يتوقع قدوم شخصية نبوية تنذر بيوم الحساب. ومع هذا، لما قدم محمد إلى المدينة، رفض معظم اليهود الاعتراف بنبوته. كانت هناك بعض الاستثناءات البارزة مثل عبد الله بن سلام المشهور، لكن يهود المدينة كجالية امتنعوا بأغلبية ساحقة أن يصبحوا مسلمين والتخلي عن تقليدهم القديم. ونظرا لنجاح محمد الكبير والسلطة الرهيبة التي يتمتع بها، ومنها نزول القرآن، فكيف يمكن أن يحدث هذا؟ 
يبدو من المستحيل استعادة الأسباب الدقيقة لرفض اليهود كجالية اتباع محمد، ومن الصعوبة بمكان استخراج أسباب معينة من المصادر المتاحة لنا. ذكر القرآن والسيرة كيف رفض اليهود بعناد أن يؤمنوا بنبوته، ولم ترد أسباب معينة غير العناد. وبالتالي فإن التخمين هو الطريق الوحيد للتعرف إلى تلك الأسباب. ربما لم تنطبق أوصاف المنتظر لدى اليهود على محمد، كما يقترح الحديث المذكور أعلاه. ويتضح من القرآن كذلك أنه بالرغم من أن الوحي الذي كان محمد يتلوه في مجتمع المدينة يشبه وحي التوراة التي يملكها اليهود، إلا أنهما مختلفان في التفاصيل بما فيه الكفاية لجعل اليهود يشككون في أصالته. ومما لا شك فيه أن القرآن أنزل باللسان العربي في محيط ثقافة عربية، بينما أنزلت التوراة باللسان العبري في محيط ثقافي إسرائيلي؛ يحتمل أن يفسر هذا الفرق في الإسلوب كثيرا من الاختلاف. لكن هذا التضارب كان كافيا على ما يبدو بالنسبة لليهود الذين كانوا قد ملوا حتى الآن مما اعتبروه التشويهات المسيحية لمعنى (التوراة) في العهد الجديد والتفسيرات المسيحية.
وإذا كان اليهود يستحقون الثناء أم لا على إصرارهم بالالتزام بتقليدهم القديم لا بد أن يظل أمرا يعتمد على الرأي. يكفي القول منا إن محمدا ويهود المدينة لم يجدوا أرضية مشتركة في خاتمة المطاف. ولقد نزلت بعض الآيات القرآنية التي تندد يهود المدينة للرد على الاختلاف التأريخي الحقيقي وعلى الجدالات والعداء الذي نشب بينهما. قام بعض المفسرين والعلماء المسلمين الآوائل بتأليف مجموعة من الكتب عن أسباب النزول التي ربطت بين الآيات القرآنية والأحداث التأريخية في حياة النبي. لقد ذكر هؤلاء العلماء المسلمون عدد الآيات والسور التي تصف اليهود بشكل سلبي، والتي نزلت خصيصا في مناسبة نزاع محمد معهم. ووردت هذه الآيات والسور للرد على أحداث معينة إما للتنديد بسلوك بعض اليهود في المدينة، وإما للتخفيف من الأذى والغضب الذي شعر به محمد من جراء ذلك. فنجد علي سبيل المثال في سورة المائدة (5: 82) ״لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى...״ تبين هذه الآية حقيقة ألا وهي أن محمدا لم يعش بين المسيحيين وبالتالي فإنه لم يعانِ من رفضهم كما عانى من رفض مشركي مكة ويهود المدينة. ولم يدخل المسلمون في نزاع مفتوح مع المسيحيين في الجزيرة العربية ومع الإمبراطورية البيزنطية إلا بعد موت محمد. وتندد أيضا سورة المائدة (5: 49)، على سبيل المثال، باليهود لمحاولتهم ״أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله من القرآن״. وقد طبقت بعض هذه الآيات خطأً على اليهود كلهم في الأجيال اللاحقة مساهمة بالتالي في استمرار مقدار من التفكير المسبق ضد اليهود بين المسلمين بشكل عام.
لم يخلد ولم يعمم النزاع القصير بين النبي ويهود المدينة في القرآن فقط بل أيضا في الحديث وفي السيرة النبوية، وقد شكل الأرضية الأولى لتحديد معاملة اليهود في الإسلام. ولقد تلقى النبي سورة براءة (9: 29) في أواخر حياته التي جاء فيها: ״قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ״. فمن جهة قد أكدت أوجه التشابه بين الكتابات المقدسة الإسلامية واليهودية والممارسات الدينية بأن اليهود (والمسيحيين) يعتبرون أقليات دينية تضمن لها الدولة الإسلاميةحماية مطلقة لحقوقها الدينية والاقتصادية. ورفض اليهود (والمسيحيين) في النهاية اعتناق الإسلام قد أدى بمكانتهم الاجتماعية في المجتمع الإسلامي أن تبقى دائما في وضع موات. ذمتهم مشروطة بدفع الجزية، وقبول وضع ثانوي في المجتمع الإسلامي. ومع هذا، فإن وضع الأقليات الدينية المحمية (الذميين) كان بالتأكيد مرضيا إن لم يكن أفضل من وضع الأقليات الدينية في أي نظام ديني أو سياسي معاصر لذلك الزمن. وسنرى قريبا كيف ازدهرت الحياة اليهودية في كثير من مناطق العالم الإسلامي.


الفتوحات الإسلامية واليهود
لم يسيطر اليهود في أي مكان على جيوش أو دول في فترة الفتوحات الإسلامية بخلاف المسيحيين والزرادشتيين. كان اليهود يعيشون في الأماكن التي يقطنون فيها كأقليات دينية مع بعض المعوقات الاجتماعية والدينية، والاقتصادية المفروضة عليهم من قبل الدولة والدين الرسمي للدولة. وبالتالي لما تقدمت الجيوش الإسلامية ضد البيزنطيين والفرس فإنها لم تهاجم اليهود مباشرة، بالرغم من أن بعض اليهود اختاروا الالتحاق بمضيفيهم في الدفاع ضد الغزوات. لكن اليهود اختاروا في غالبية الأحوال إما عدم مقاومة المسلمين أو التعاون النشيط معهم. فقد ساعد اليهود في حمص على منع الجيش الروماني من الدخول للدفاع عن المدينة. وساعد اليهود المسلمين على اختراق دفاعات مدينتي الخليل وسيزاريا (قيساريا: جنوب حيفا). وقاموا بثورة مسلحة في أسبانيا ضد حكامهم المسيحيين، وعينوا من قبل المسلمين في محميات عسكرية لإبقاء المدن الأسبانية تحت السيطرة الإسلامية 27.
كان اليهود في حال أحسن عند المسلمين مما كانوا عليه عند المسيحيين الرومان ويبدو أن أحوالهم كانت أفضل مما كانت عليه عند الفرس الزاردشتيين. لكن عالم العصور الوسطى لم يكن يشارك في القيم الغربية الحديثة في التعددية والمساواة الدينية. كان اليهود أحرارا في ممارسة دينهم دون تدخل، لكن يطبق عليهم عدد من القيود التي قننت في ميثاق عمر (العهدة العمرية) 28. ففي بعض العصور الإسلامية، لم يسمح لهم القيام بأنشطة دينية عمومية، أو بناء معابد أو إصلاح الموجود منها إلا بإذن خاص من الحاكم ولا يسمح لهم أيضا برفع أصواتهم في أثناء الصلاة بطريقة تلفت انتباه المارة. إضافة إلى هذا فإن اليهود (والمسيحيين) يمنعون من حمل السلاح ومن ركوب الخيول المسرجة أو من بناء بيوت أكبر من بيوت المسلمين. وكانوا دائما مطالبين بإظهار الاحترام للمسلمين كالقيام من مكان جلوسهم إذا رغب المسلمون في الجلوس فيه، والنزول من على بغالهم وحميرهم عند المرور بأحد المشاة من المسلمين. ولقد منع اليهود أيضا من الوظيفة الحكومية ومن المراكز العمومية الحساسة أو من ضرب مسلم. 
هذا وقد خضع اليهود لكثير من هذه القيود خصوصا عندما كانت الحياة مستقرة على الصعيد الاجتماعي، والاقتصادي والسياسي. لكن إذا تقرر أن اليهود انتهكوا واجبهم في قبول وضع ثانوي في المجتمع الإسلامي (كبناء معبد جديد، مثلا، واتخاذ وظيفة عمومية، أو الفشل في إظهار احترام كافٍ للمسلمين) فقد كان بالإمكان سحب وضع الذمية (الحماية) منهم، ويبقى اليهود دون حماية في أمام العامة. وبالإمكان ملاحظة أمثال الطريقة التي عمل بها النظام في حالة اليهودي المشهور شموئيل بن يوسف هاليفي، المعروف أيضا في التأريخ اليهودي بشموئيل هنغيد (الأمير) وفي المصادر العربية بإسماعيل بن نغريلا. كان حاخاما وتولى الوزارة وحتى قيادة الجيش لحبوس وابنه باديس من ملوك غرناطة المسلمين. منح باديس إسماعيل سلطة أكثر فأكثر كلما تقدم الملك في السن، ومارس إسماعيل سلطته وتأثيره في المملكة بحذر وحكمة كبيرة. فلما مات إسماعيل سنة 1055 عين ابنه يوسف مكانه. وبالرغم من أنه كان موهوبا بشكل غير عادي مثل أبيه إلا أن يوسف كان متكبرا ومكروها. ولقد ساهم سلوكه الخارج عن الذمية إلى سقوطه واغتيل في النهاية سنة 1066 وذبحت الجالية اليهودية في غرناطة. فمن المنظور التقني، فإن كلا من يوسف وأبيه قد انتهكا الميثاق في قبولهما وظيفة سامية في الدولة وممارسة السلطة على المسلمين. لقد أهملت هذه الحقيقة في الوقت الذي كان إسماعيل يتصرف فيه بتواضع نادر عندما كانت المملكة على العموم سعيدة. لكن عندما ظهرت الضغوط ورفض يوسف أن يتواضع نقضت ذميته فقتل ودمرت جاليته.
يحتمل أن تكون الحياة بالنسبة لليهود أفضل في ظل الإسلام أكثر من أي نظام سياسي أو ديني آخر في فترة ما قبل العصر الحديث. ولكن، بالرغم من ذلك فإنها كانت غير مستقرة ومحفوفة بالمخاطر في بعض الأحيان، وكان اليهود والأقليات الدينية الأخرى يعرفون دائما أنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وتعتبر مكانة المواطنة من الدرجة الثانية غير مقبولة قانونيا في الديمقراطيات الحقيقية الحديثة، كما يعتبر الشغب الدوري والمذابح ضد اليهود والمسيحيين في عصور وسطى العالم الإسلامي غير مقبولة.
ومن الواضح أن الوضعية الدنيئة الثانوية للأقليات الدينية في العالم الإسلامي كان لها تأثير على التحويل إلى الديانة الإسلامية لأن معظم المسيحيين والزاردشتيين واليهود الذين كانوا رعايا الإمبراطوريات الإسلامية اعتنقوا الإسلام خلال القرون القليلة الأولى بعد الفتح. ويمكن التغاضي بسهولة عن المكانة الجيدة نسبيا التي كان اليهود والأقليات الدينية الأخرى يتمتعون بها في ظل الإسلام خلال فترات زادت فيها فرص الحرية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاحترام لكن بشكل مختلف عن الحرية التي يحظى بها اليهود اليوم في ظل ديمقراطية حقيقية عصرية.


انتصار الربانية في ظل الخلافة العباسية
كانت الجاليات اليهودية في الجزيرة العربية أقلية صغيرة جدا في العالم اليهودي، ويبدو كما ذكر أعلاه أن ممارستها للديانة اليهودية كانت مختلفة عن الممارسة السائدة عند اليهود. وقد تحول مركز الديانة اليهودية المهم من فلسطين إلى بلاد ما بين الرافدين. وسبب هذا التحول هو أن الإمبراطورية الفارسية كانت أكثر ترحابا لليهود من الإمبراطورية المسيحية البيزنطية. وكان يمثل الجاليات اليهودية داخل الإمبراطورية الفارسية (في البلاط الفارسي) يهودي يحمل اللقب الرسمي ״رأس الجالوت״ أي رأس المنفى. وكان لليهود أيضا أكاديميات تعليم كبيرة خصوصا في مدينتي سورا وبومبديثا قريبا من الموقع الذي أصبح فيما بعد بغداد. يترأس كل أكاديمية أكبر علمائها الذي يحمل لقب غؤون. ولقد تولى الغؤونيم في النهاية زعامة العالم اليهودي بحكم علمهم وحكمتهم.
إن تكوين وتنظيم الجالية اليهودية في بابل لم يتغير تغيراً ذا دلالة مع الفتح الإسلامي، لكن القوة النسبية لهذه الجالية تزايدت بشكل خيالي عندما أسست الإمبراطورية العباسية عاصمتها في بغداد سنة 762. تقع بغداد، عاصمة إمبراطورية إسلامية ممتدة من نهر الهندوس إلى المحيط الأطلسي، بالضبط وفيها مركز أكبر جالية يهودية. ولهذا اتخذت أدوار رأس الجالوت والغؤونيم المحليين مركزا شاملا في كل العالم اليهودي. يجلس رأس الجالوت في بلاط الخليفة ويبعث الغؤونيم بتعليقاتهم الرسمية حول تفسير القانون اليهودي المعروفة بتشوفوت (Teshuvot) إلى الجاليات اليهودية في كل الإمبراطورية. وتعتبر هذه التشوفوت ״أجوبة״ (فتاوى) على الأسئلة التي ترد إلى الحكماء من قبل الحاخامات المثقفين الذين يلجؤون إلى ما يعادل ״محكمة عليا״ للقانون اليهودي في بابل/العراق. وأصبح الغؤونيم أعلى سلطة في القانون اليهودي (الشريعة) الذي يشتمل، كما هو الحال في الإسلام، على كل أوجه الحياة اليهودية. وتعتبر السلطة الدينية الغؤونية السلطة العليا لأنها مبنية على العلم بالقانون الإلهي وعلى تفسيراته. ولقد اعتمدت أحكامهم على التلمود وعلى التفسيرات التلمودية للتوراة. كانت هذه الفترة، فترة القوة العباسية الكبرى المصادفة للمركزية الكبري لسلطة الغؤونيم هي التي احتل فيها التلمود وتفسيراته للتوراة السلطة المركزية للحياة اليهودية.
يبدو أنه من المستحيل أن يحتل التلمود هذه المركزية في الديانة اليهودية لولم تكن مكانة الغؤونيم مرتبطة بالقوة العالمية وشرف العراق العباسي. أصبحت عاصمة الإمبراطورية تحتل مكانة في غاية الأهمية لدى اليهود إلى درجة أن أكاديمياتهم الكبرى في سورا وبومبديثا انتقلت في خاتمة المطاف إلى بغداد نفسها، بالرغم من أنها ما زالت تعرف بأسمائها الأصلية. لقد مكنت وحدة الإمبراطورية العباسية تسهيل نقل الأشخاص والبضائع ورأس المال والأفكار من المركز اليهودي في بغداد إلى معظم العالم اليهودي، وبالفعل فإن حوالي 90 في المئة من يهود العالم آنذاك كانوا يعيشون في العالم الإسلامي. وكان ذلك العالم، أي العالم اليهودي، حرا في إدارة شئونه الداخلية بتدخل قليل من السلطات الإسلامية ما دام اليهود يدفعون ضرائبهم ويعترفون بسيادة الإسلام من خلال بعض التصرفات بعضها مذل شيئا ما. لا يهتم أسيادهم المسلمون كثيرا بما يقوم به اليهود ما داموا يحفظون السلام ويدفعون ضرائبهم (الحسبة أو الجزية) وما داموا ملتزمين بأماكنهم. 


من العصر الذهبي إلى الانحطاط
وصلت الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى فترتها الأكثر إنتاجا بين السنوات 900 و1200، وتبعتها الحضارة اليهودية في العالم الإسلامي على المنوال نفسه. تطورت في أثناء هذه الفترة بعض أكبر أعمال الفلسفة اليهودية، والنحو، والقانون وفقه اللغة، وصناعة المعاجم مماثلا للتقدم الكبير لهذه الحقول في العالم الإسلامي. ووجد الشعر اليهودي بالعبرية نهضته أيضا في هذه الفترة وتشبه أوزانه وأسلوبه ومحتواه مثيلاتها في نظيره الشعر الإسلامي العربي.
وفي هذه الفترة أيضا بدأ العراق يفقد السيطرة السياسية للإمبراطورية، وربما ليس غريبا بأن تفقد القيادة اليهودية في بغداد احتكارها أيضا على معظم يهود العالم. إن قيام الدولة الأموية في أسبانيا والدولة الفاطمية في إفريقية ومصر قد جلب معه قيام الجاليات اليهودية التي تعيش في هذه المناطق. وجذب نجاح هذه المناطق النائية الاقتصادي والسياسي العلماء والمثقفين إلى المراكز الجديدة الناشئة. 
لم يكن هذا أكثر وضوحا في أي مكان آخر مما هو في أسبانيا حيث ازدهرت الحضارة اليهودية جنبا إلى جنب مع ازدهار العلوم الإسلامية والدنيوية هناك. كان اليهودي حسدي ابن شبروت (ت 975) طبيب خلفاء بني أمية ومستشارهم مثل عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني. لم يخدم فقط أسياده المسلمين بامتياز، لكنه أيضاً رعى الفنون والعلوم بين اليهود. فكما أن المسلمين الخلفاء والحكام والشخصيات البارزة لها بلاطاتها التي يدعمون فيها العلوم الإسلامية والدنيوية ويشجعونها، فكذلك تدعم الشخصيات اليهودية والمسيحية البارزة فنانيها ومثقفيها. وقد أدى هذا النشاط إلى انتشار ازدهار كبير للثقافة في كل أسبانيا المسلمة المعروفة بالأندلس في اللغة العربية. إن مجتمع الأندلس والمتفتح نسبيا قد أعيد إلى الوراء، وقضت عليه جيوش شمال إفريقية القادمة لمد يد العون للدفاع ضد ״غزوات״ المسيحيين الأسبان الذين يدفعون المسلمين باتجاه الجنوب انطلاقا من معاقلهم في الشمال. لقد عانى اليهود من قيود شديدة في ظل الأنظمة الأمازيغية الإسلامية (البربر) وبدأوا في النهاية في التحرك شمالا إلى المناطق التي تغلب عليها المسيحيون حديثا والتي وجدوا فيها، في ذلك الوقت معاملة أفضل. 
لقد انعكست أيضا انتكاسة حظ اليهود في أسبانيا على مناطق أخرى من العالم الإسلامي الذي بدأت فيه، مع القرن الثالث عشر، العقلية الإقطاعية القاسية والمسيطرة تأخد مكان القيم الإنسانية التي كان المجتمع الإسلامي يتميز بها. إنها كانت فترة كان فيها الإسلام في موقف الدفاع. فلقد هجم الصليبيون على الشرق سنة 1098 وظلوا فيه مدة قرنين. وبدأت جيوش استعادة الفتح تتغلب على المسلمين في أسبانيا واستولى النورمان على صقلية الإسلامية وعلى جنوب إيطاليا. وكان المسيحيون الأوروبيون يبحرون عبر الأبيض المتوسط للإغارة وسلب شاطئ شمال إفريقية. وجلبت حشود المغول الخراب للشرق الإسلامي وقضوا في النهاية على الخلافة العباسية سنة 1258.
بدأ الإسلام ينطوي على نفسه في أثناء هذه الفترة المتسمة بالانحطاط السياسي والاقتصادي وبدأ أيضا، من بين أمور أخرى، يقيد حريات وفرص الأقليات الدينية التي تعيش في وسطه. إن الوضع الحقيقي يختلف كثيرا من مكان إلى مكان، لكن الاتجاه العام كان نحو فرض القيود الواردة في ميثاق عمر وحتى الزيادة فيها. ضغط على اليهود (والمسيحيين) للخروج من الخدمة المدنية وأصبحوا منعزلين أكثر فأكثر، وأجبرت بعض الجاليات للعيش في الجيتوهات. وفي بعض الحالات ارتكبت المذابح ضد الجاليات اليهودية والمسيحية. وكما انحط العالم الإسلامي كذلك أيضا انحطت الجاليات اليهودية داخله، وبدأ الإبداع اليهودي في المجال الفكري والثقافي والديني يتحول في اتجاه الجاليات اليهودية في أوروبا. وكان العالم الإسلامي في هذا الوقت بعيدا عن الوحدة، وبالتالي فإن معاملة اليهود كانت مختلفة. وشهدت مناطق مختلفة انتكاسات مؤقتة وكانت الإمبراطورية العثمانية في القرنين الخامس والسادس عشر استثناء بارزا، لكن على العموم، استمرت مكانة اليهود في الانحطاط إلى العصر الحديث.


يهود أوروبا المسيحية
لم يعش في أوروبا في العصور الوسطى المبكرة أكثر من عشرة في المئة من مجموع يهود العالم. كانت أوروبا في ذلك الوقت غير متطورة في الغالب ويفضل اليهود أن يعيشوا في الأماكن المتحضرة جدا. ولكن الوضع الأوروبي تحسن كثيرا مع تقدم العصور المتوسطة وازداد سكانها اليهود تبعا لهذا التحسن. وكلما انحط العالم الإسلامي تحسن العالم الأوروبي المسيحي. لكن الوضع بالنسبة ليهود أوروبا المسيحية ظل غير مستقر. تعتبر الديانة المسيحية نفسها الوريث الطبيعي للديانة اليهودية، ويولع المسيحيون باعتبار أنفسهم ״إسرائيل الحقيقية مفترضين بذلك أن اليهود ليسوا أهلا للإسم. وبسبب اعتبار المسيحية نفسها ناسخة لليهودية فإن النظرة المسيحية الذاتية نفسها تتطلب أن يهان اليهود والديانة اليهودية ويصغروا علانية. وأصبح إذاً في غاية الأهمية لليهود الذين يعيشون بين المسيحيين أن يعيشوا في وضع منحط ومهين. هناك شبه واضح بين هذا الوضع ونظرة الإسلام للذمية لكن النظام المسيحي في مجمله أشد قساوة وأكثر اتساقا مع فرض المكانة الثانوية لليهود. 
ورغم كل ذلك، يزداد سكان أوروبا من اليهود بانخفاض عددهم في العالم الإسلامي وقد استفاد اليهود من تحسيس الأوضاع الاقتصادية والسياسية الأوروبية في العصور الوسطى المتأخرة. لكن على عكس العالم الإسلامي، فمع تقدم أوروبا المسيحية اقتصاديا، وفكريا، وعلميا فإن معاملتها لليهود لم تتحسن. وعلى عكس العالم الإسلامي أيضا حيث يوجد دائما مكان لليهود في المجتمع الواسع، فإن كثيرا من دول أوروبا المسيحية كانت تبحث عن التخلص من اليهود بالكامل. أشهر حالة هي حالة إسبانيا المسيحية التي طردت كل اليهود بالقوة أو أرغمتهم على تغيير دينهم سنة 1492 (وقامت بالعملية نفسها مع المسلمين بعد سنوات قليلة فيما بعد). لكن طرد اليهود كلهم أيضا من بريطانيا، وفرنسا، ومن عدد من الولايات الألمانيـة كذلك. ولحسن الحظ فإنهم إذا طردوا من مكان، فإنهم استطاعوا أن يجدوا ملجأ في مكان آخر في أوروبا ولكن النتيجة المحصلة كانت في الغالب الفقر والمأساة. 
إن وحدة العالم المسيحي هي أقل من وحدة العالم الإسلامي، وكان لدى اليهود مهارات ممتازة جعلتهم مرغوبين عند بعض الحكام والملوك المسيحيين، بالرغم من أن هذه المهارات نفسها جعلت منهم تهديدا للآخرين. وفي بعض الأحوال السيئة جدا تعرض اليهود للمـذابح في بعض المناطق، كما حـدث في أثنـاء الحرب الصلـيبية الأولى سنة 1096 أو في أثناء مذابح أرمليدير (Armleder) الألمانية في السنوات 1336 – 1339. وهكذا فلقد عاش اليهود في أوروبا لكن، وضعهم لم يتحسن في الغالب إلا بعد دخول العصر الحديث.
المرجع:
https://mfa.gov.il/MFAAR/InformationaboutIsrael/TheJewishReligion/ChildrenOfAbraham/Pages/Talmud%20and%20the%20world%20of%20the%20Middle%20Ages.aspx

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ثقافة بازيريك

هي ثقافة تنتمي إلى الحضارة السكيثية البدوية التي تنتمي إلى العصر الحديدي الممتد من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تم التعرف ...