السبت، 29 يونيو 2019

أسرار ديونيسوس

ديونيسوس في باخوس، للرسام الإيطالي كارافاجيو (1571-1610).


أو الأسرار الديونيسوسية، وهي عبارة عن طقوس كانت تمارس في اليونان القديمة وروما والتي رافق تأديتها أحيانا استعمال بعض المهلوسات بالموازاة مع وسائل أخرى للتغييب مثل الرقص والموسيقى، وكانت الغاية من ذلك هو التخلص من الموانع والقيود الاجتماعية، وتحرير الفرد وإعادته إلى الحالة الطبيعية، كما قدمت هذه الطقوس خدماتها للمهمشين من قبل المجتمع الإغريقي والذين كانوا يتمثلون في النساء والعبيد والخارجين عن القانون وغير المواطنين، وفي مراحل متأخرة من ممارستها، غيرت هذه الطقوس تركيزها من التوجه إلى العالم السفلي إلى التوجه نحو عالم متسام وباطني، وتغيرت بالتالي طبيعة ديونيسوس وفقا لهذا التغير. وبطبيعتها كديانة غامضة محجوبة عن جموع المستهلين، فقد بقيت العديد من جوانب عبادة ديونيسوس غير معروفة وتم فقدانها مع تراجع الوثنية الإغريقية ـ الرومانية، والمعلومات الحالية عنها مستمدة من خلال تقفي النعوت والمنحوتات والدراسات متعددة الثقافات. 
كراتر ديرفيني، طولها 90.5 سنتمتر تعود للقرن الرابع قبل الميلاد، والكراتر هو نوع من الزهريات التي كان يشرب فيها الخمر والماء في عصر اليونان القديمة.

ويعتقد أن أسرار ديونيسوس قد تطورت في البر الرئيسي لليونان وعلى مستوى الإمبراطورية الرومانية من كونها عبادة أولية أكثر بدائية ومجهولة الأصول انحدرت من تراقيا أو فريجيا ربما، إلى عبادة أكثر تطورا تمكنت من الانتشار عبر منطقة البحر الأبيض المتوسط منذ بداية العصر الكلاسيكي اليوناني، وقد ارتبط انتشار هذه العبادة بانتشار شراب النبيذ وذيوعه بالإضافة إلى مختلف مهلوسات الإنثيوجين التي يبدو أنها ارتبطت بها بشكل وثيق علاوة على شراب "الميد". وبابتدائها كشعيرة بسيطة، سرعان ما تطورت عبادة ديونيسوس داخل الثقافة الإغريقية لتصبح "ديانة غامضة" ذات شعبية استوعبت مجموعة متنوعة من الطوائف الدينية المماثلة بآلهتها لتشكل تخليقا إغريقيا نموذجيا امتد عبر مختلف أقاليم اليونان، ولعل أحد الأشكال المتأخرة لهذه العبادة يتمثل تحديدا في الديانة الأورفكية. وعلى أية حال، يبدو أن جميع مراحل هذه السلسلة التطورية لأسرار ديونيسوس قد استمرت متوازية في جميع أنحاء شرق البحر الأبيض المتوسط حتى أواخر التاريخ الإغريقي وبداية صعود التنصير. 
طاولة رخامية دعائمها مزينة بمجموعة من الآلهة تشمل ديونيسوس و بان و ساتير، ويحمل ديونيسوس الريتون (إناء للشرب) منحوتة على شكل نمر، من ورشة عمل آسيا الصغرى، 170-180 م، المتحف الوطني الأثري، أثينا، اليونان.

وبتقصي أصول العبادة النشوانية لديونيسوس فإن الاعتقاد الذي كان سائدا هو أنها قدمت إلى اليونان من تراقيا أو آسيا الصغرى بسبب شعبيتها هناك والدليل على ذلك ـ حسب هذا الاعتقاد ـ هو عدم دمج ديونيسوس داخل البانتيون الأولمبي لآلهة الإغريق، خاصة بعد اكتشاف إسم هذا المعبود في "الألواح الموكيانية" التي تنتمي إلى المنطقتين الآنفتين، لكن أصبحت هذه النظرية مهجورة وتم التوصل لاحقا إلى أن أسرار ديونيسوس هي عبادة محلية بامتياز، أما غياب ديونيسوس عن البانتيون الأولمبي فيفسر بأنماط الاستبعاد الاجتماعي لمعتنقي هذه الأسرار وتهميش العبادة ككل في بداياتها، وعلى أية حال، يصعب تتبع التسلسل الزمني الدقيق لهذه العبادة، سواء أصلت العبادة في كريت المينوسية كجانب من عبادة "زاجروس" القديم أو أفريقيا أو في تراقيا أو آسيا كتمثل بدائي" لسابازيوس" وتظل الإجابة الحاسمة غائبة بسبب نقصان الأدلة، ويبقى من المؤكد عموما أنها تحتوي على ميزات مألوفة من "الحضارة المينوسية". 
فسيفساء يونانية تصور الإله ديونيسوس كأنه مجنح يمتطي نمرا من بيت ديونيسوس في جزيرة ديلوس (التي كان يسيطر عليها الأثينيون ذات وقت) في منطقة جنوب بحر إيجة في اليونان، ويعود تاريخ هذه الفسيفساء إلى أواخر القرن الثاني ق.م، من متحف ديلوس الأثري.

إن الجذور الأصلية لديونيسوس ـ كما عرفت في اليونان ـ ارتبطت بتقديس النبيذ وهو نفس ارتباط طوائف أمريكا الوسطى القديمة بتقديس الأنثيوجين مثلا، وتمثل هذا التقديس في الاهتمام بزراعة الكرمة التي كان يعتقد أنها تجسيد للإله الحي وفهم دورة حياتها، وكذا تخمير النبيذ من "جسدها" المعتصر، هذا النبيذ الذي مثل للإغريق جوهر الرب في العالم السفلي، والأهم من ذلك كان ينُظر إلى الآثار المسكرة والفاضحة للنبيذ على أنها عبارة عن تملك من قبل روح الإله ولاحقا كمسبب لهذا التملك، هذه الطائفة ـ طائفة ديونيسوس ـ لم تكن تهتم فقط بالكرمة في حد ذاتها، ولكن انصب اهتمامها أيضا على المكونات الأخرى للنبيذ، فمن المعلوم أن النبيذ يشتمل على عناصر أخرى عشبية وزهرية وراتنجية، إضافة إلى جودته، والنكهة والخصائص الطبية التي تميزه، على أن محتوى الكحول في النبيذ عند قدماء الإغريق كان منخفضا، وعزا بعض العلماء المعاصرين تأثيره القوي كان بسبب ربما مكونات إنثيوجينية كانت تضاف إلى "شكله المقدس" في الغالب، وعادة ما كان يضاف إليها العسل والشهد كذلك، بل وحتى مشروب أكثر عراقة مثل شراب الميد، وبناء على ذلك، افترض العالم الهنغاري "كارولي كيرينيي" في أن تقليد النبيذ هذا حل محل تقليد "الميد" في العصر الحجري الحديث. أو استوعبه جزئيا. 

وكان هناك نباتات أخرى اعتقد الإغريق بأهميتها الثقافية فضمنوها أيضا في تقاليد النبيذ مثل نبتة اللبلاب الكبير المقاومة للسكر والتي تزهر في الشتاء بدل الصيف، والتين الذي اعتبر بمثابة ملين للذيفان والصنوبر الذي جُعل حافظا للنبيذ، إضافة إلى رمزية الثور بالنسبة للذين كانوا يسكرون من قرن النبيذ والماعز فيما يتعلق بالزق الذي كان يخصص للنبيذ، وفي نهاية المطاف كان ينظر إلى هذه المكونات كتجليات لديونيسوس، ففهم التقليد الثقافي للكرمة ورمزيتها عند الإغريق كان المفتاح الرئيسي لفهم عبادة ديونيسوس التي انبثقت منها، هذه الرمزية التي شملت الحياة والموت والبعث من جديد وتوفير نظرة ثاقبة في علم النفس البشري. 

وسواء كان بزوغ ديونيسوس في اليونان مرتبطا بدخول النبيذ إليها منذ 6000 سنة قبل الميلاد آتيا من جبال زاغروس والأراضي المتاخمة لبلاد الرافدين وفارس مرورا بآسيا الصغرى التي عرفت بالروافد الغنية لثقافة النبيذ، أو آتيا من منحدرات جبال ليبيا والمناطق الأخرى من شمال أفريقيا ـ التي اشتهرت بالكروم البرية ـ مرورا بمصر القديمة، فإن كريت المينوسية تبقى المعبر الأساسي حيث كانت تستورد النبيذ من المصريين والتراقيين والفينيقيين وتصدره لمستعمراتها بما فيها اليونان، وربما تبلورت أسرار ديونيسوس في كريت المينوسية في الفترة الممتدة من 3000 إلى 1000 سنة قبل الميلاد، خاصة إذا علمنا أنه لم يكن هناك وجود لاسم "ديونيسوس" كما هو متعارف عليه في أي مكان جغرافي آخر غير اليونان وجزيرة كريت. 

وقد كانت "طقوس ديونيسوس" مؤسسة على ثيمة الموت والبعث الموسمية، وشائعة وسط مختلف الطوائف الزراعية على غرار "طائفة أسرار أليوسيس"، كما أن الأسرار الأوزيريسية في مصر الفرعونية تقاطعت مع نظيرتها الديونيسيسية إلى حد بعيد حسب المهتمين بالحضارة المصرية والإغريقية. وتضمن "تملك الروح" في عبادة ديونيسوس التحرر من مبادئ الحضارة وقيودها والاحتفال بالخارجين عن المجتمع المتحضر العائدين إلى الطبيعة البدائية، وتضمنت العبادة أيضا الهروب من الشخصية المجتمعية والأنا داخل شطحات الروح والانصهار في "الدولة المؤلهة أو القطيع البدائي" أو كلاهما، بهذا المعنى اعتبر ديونيسوس الإله الذي بداخله وحش، أو تجسد العقل الباطن حسب علم النفس المعاصر لذا ليس مفاجئا أن العديد من المصلين لديونيسوس كانوا على هامش المجتمع من النساء والعبيد والخارجون عن القانون والأجانب (وهم غير المواطنين في الديمقراطية الإغريقية)، فالكل كان سواسية في عبادة قلبت أدوارهم كما هو الحال في "عيد الساتورن" الروماني. 

ولم تشتمل طقوس استثارة النشوة الرئيسية في العبادة فقط على النبيذ والمهلوسات، "فاستحضار الروح" كان يتم كذلك عن طريق آلة "الرومبوس" والرقص الجماعي على إيقاع الطبول والمزامير، وكان استجداء الوصول إلى النشوة مرفوقا بحركات مميزة مثل هز الرأس إلى الخلف الذي يوجد تقريبا في كل الطقوس التي تسببها الغيبوبة والمعروفة حاليا في طقوس الفودو وغيرها من الطقوس المشابهة، وكما في طقوس الفودو، كان هناك ترانيم معينة ارتبطت بالنشوة والتي وجدت محفوظة في الكتابات الإغريقية حول الطقوس الديونيسوسة (مثل دراما "يوربيديس" المسماة "الباخوسيات") إذ تضمنت وصفا لهذه الطقوس في الريف اليوناني وبالأخص في الجبال حيث كانت تقام المواكب في أيام الأعياد. 

متبعين المشاعل المنغمسة والمتمايلة في الظلام، كان العُباد يصعدون مسالك جبلية برؤوس محنية إلى الخلف وعيون لامعة راقصين على دقات الطبول التي كانت تستثير دماءهم أو يترنحون بثمالة فيما عُرف باسم "مشية ديونيسوس"، في هذه الحالة من الهذيان أو الحماس، كانوا ينفلتون عن أنفسهم أو بتعبير أدق يتخلون عنها، ويرقصون بعنف صارخين "Euoi" ("إسم الإله" وهي صرخة كانت تطلق من نشوة الطرب والحماس في الاحتفالات والعربدات الباخوسية) وفي تلك اللحظة من نشوة الطرب الشديد، يصيرون متماهين مع الإله نفسه ممتلئين بروحه مكتسبين لقوى علوية. 

هكذا تظهر هذه الممارسة في الثقافة اليونانية من خلال مهرجانات "عيد باخوس أو الباخاناليا" و "الميندات" (Maenads أتباع ديونيسوس الإناث وأهم أعضاء "الثياسوس" أي "حاشية ديونيسوس الشاطحة") و "الثيات" (شخصيات نسائية ارتبطت بعباداة مختلف الآلهة الرئيسية) و"الباكشوي" (الغصون التي كان يحملها الملقنون خلال موكبهم على طول الطريق المقدس من أثينا إلى أليوسس)، وقد اعتبر العديد من الحكام الإغريق في البداية أن هذه الطائفة تشكل تهديدا للمجتمع المتحضر وترغب في السيطرة عليه لذا حاولوا قمعها غير أنهم لم يستطيعوا، لكن استطاعت هذه الطائفة أن تنجح في تأسيس ديونيسوسية "متمدنة" لتصبح كدين لدولة أثينا، وهذا عموما لم يكن إلا شكلا من عدة أشكال متطورة للديونيسوسية، فقد أخذت طائفة ديونيسوس أشكالا مختلفة في عدة مناطق حيث غالبا ما كانت تستوعب الآلهة الأصلية لتلك المناطق وطقوسها، لقد كان "الباكشويون" اليونانيون يرون أن ديونيسوس ـ كالنبيذ ـ له نكهة مختلفة في مناطق مختلفة، عاسكا تراثها الأسطوري والثقافي، مما يجعله يظهر بأسماء وأشكال مختلفة في كل منطقة على حدة. 

إن أهم المعدات التي كانت تستخدم في تأدية طقوس ديونيسوس اشتملت على كوب "الكانتاروس"أو زهرية "الكراتر" للشرب، وقضيب "التيرسوس" الذي يحمله الملقنون، وسوط، والخنجر المعروف "بالكوبيس اليوناني"، وشبكة صيد عرفت "بالريتيس"، وتاج الغار وعباءة أرجوانية، وأقنعة شخصية، وآلة الرومبوس، وبوق طويل مستقيم عرف باسم "السالبينكس"، وآلة البان فلوت، ودف "التيمبانون"، وسلة مليئة بالتين "الليكنون". 

واشتملت الهبات التقليدية التي كانت تقدم "لديونيسوس" على: عبير المسك، بخور اللبان، طيب الزباد، بلسم الإصطرك، اللبلاب، الصنوبر، التين، النبيذ، العسل، التفاح، القنب الهندي، جذور الأوركيس، نباتات شائكة، جميع الأشجار البرية المحلية، الماس أسود. 

أما الحيوانات التي كان يضحى بها لأجل "ديونيسوس" فتألفت من: الثور والماعز وعدوهما النمر أو أي سنور كبير والثعابين إضافة إلى الظباء والغزلان والثعالب والدلافين والأسود والخفافيش والنحل. 

وفيما يخص الابتهال لديونيسوس فإليكم هذه التراتيل الأورفكية: 

أدعوك بصوت عال وهادر "ديونيسوس"، 

أيها البدائي، ذو الطبيعة المزدوجة، المولود ثلاث مرات، السيد الباخوسي، 

أيها البري، تعلو فوق كل وصف، أيها السري، صاحب القرنين والشكلين، 

أيها المغطى باللبلاب، ذي وجه الثور، المولع بالحرب، العاوي، النقي، 

خذ اللحم الذي نُزع جلده، لك ولائم، ملفوفة بأوراق الشجر، مزينة بعناقيد العنب، 

أيها الـ"يوبوليوس" ذي الحيلة الواسعة، أيها الإله الأبدي المولود من "زيوس"، 

عندما تزوج من "بيرسيفون" في اتحاد لا يوصف، 

إستمع إلى صوتي، أيها المبارك، 

مع حورياتك النقيات ذوات الزنانير اللائي يلقين علي أنفاس روح مدهشة".
المرجع:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ثقافة بازيريك

هي ثقافة تنتمي إلى الحضارة السكيثية البدوية التي تنتمي إلى العصر الحديدي الممتد من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تم التعرف ...