الأحد، 8 ديسمبر 2019

سومر ـ الجزء الثالث


لوح مشكل من حجر الكلس مع كتابة تصويرية قبل مسمارية في أواخر الألف الرابعة قبل الميلاد، متحف اللوفر.

لقد تشكلت أهم الاكتشافات الأثرية في "سومر" من عدد كبير من الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري، وتعتبر الكتابة السومرية علامة فارقة في تطور القدرة البشرية ليس فقط لإنشاء سجلات تاريخية ولكن أيضا في إبداع مقطوعات أدبية سواء في شكل ملحمات وقصص شعرية أو صلوات وقوانين، وعلى الرغم من أن الصور ـ الأشكال الهيروغليفية ـ كانت تستخدم أولا؛ إلا أن الحروف المسمارية ثم الإديوجرامات (الرموز المستعملة لتمثيل الأفكار) سرعان ما تلتها، وتم استعمال القصب الوتدي أو الإسفين للكتابة على الطين الرطب. 

لقد نجا عدد كبير من مئات الآلاف من النصوص باللغة السومرية، مثل الرسائل الشخصية والتجارية والإيصالات والقوائم المعجمية والقوانين والترانيم والصلوات والقصص والسجلات اليومية، وتم العثور على مكتبات كاملة من أقراص الطين، إضافة إلى النقوش والنصوص الضخمة على مختلف الأشياء من قبيل التماثيل أو قطع الطوب، وبقيت الكثير من النصوص في نسخ متعددة لأنه تم نسخها بشكل متكرر من قبل الكتبة أثناء التدريب، واستمرت اللغة السومرية لغة الدين والقانون في بلاد الرافدين بعد فترة طويلة من هيمنة المتحدثين بالسامية. 

ومن الأمثلة البارزة على الكتابة المسمارية قصيدة طويلة تم اكتشافها في أنقاض "أوروك"، كما أن ملحمة "جلجامش" كتبت بالمسمارية السومرية القياسية، وهي تحكي عن حاكم من أوائل الأسرة الحاكمة الثانية إسمه "جلجامش" أو "بيلجامش" في السومرية، وتستند القصة إلى مغامرات "جلجامش" الخيالية ورفيقه "إنكيدو" وقد نقشت على عدة ألواح طينية ويقال أنها أول مثال على قطعة من الأدب الفنتازي المكتشف حتى الآن. 

وتعتبر اللغة السومرية عموما لغة معزولة في علم اللغة لأنها لا تنتمي إلى عائلة لغوية معروفة، بينما الأكادية على النقيض من ذلك تنتمي إلى الفرع السامي للغات الأفروآسيوية، وكانت هناك العديد من المحاولات الفاشلة لربط السومرية بعائلات لغوية أخرى. إن السومرية لغة إلصاقية، وبمعنى آخر، تتميز بثبات المورفيمات (المقاطع الصرفية) المكونة لكلماتها، على عكس اللغات التحليلية حيث يتم إضافة المورفيمات إلى بعضها البعض لإنشاء الجمل، واقترح بعض المؤلفين أنه قد يكون هناك دليل على وجود لغة تفاعلية أو تداخلية للمعالم الجغرافية ومختلف الأنشطة الحرفية والزراعية والتي تسمى على اختلافها الفراتية الأولية أو الدجلية الأولية، ولكن هذا الزعم كان محل خلاف من قبل الآخرين. 

إن فهم النصوص السومرية اليوم يمكن أن يكون إشكالية؛ إذ إن النصوص الأكثر صعوبة هي النصوص الأولى والتي في كثير من الحالات لا تعطي التركيب النحوي الكامل للغة، ويبدو أنها استخدمت كمذكرات مرجعية للكتبة ذوي المعرفة. 
تطور الكتابة عبر مختلف الحضارات، يوضح هذا التخطيط المسمارية السومرية كأصل للعديد من أنظمة الكتابة.

وخلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، تطور التعايش الثقافي بين السومريين والأكاديين وكان من بين مظاهره انتشار التعددية اللغوية على نطاق واسع، وقد كانت التأثيرات بين السومرية والأكادية واضحة في جميع المجالات بما في ذلك الاقتراض المعجمي والتقارب النحوي والمورفولوجي والفونولوجي، ودفع هذا التأثير المتبادل العلماء إلى الإشارة إلى السومرية والأكادية في الألفية الثالثة قبل الميلاد باعتبارهما لغتان اتحاديتان. 

وقد حلت الأكادية تدريجيا محل اللغة السومرية كلغة منطوقة في فترة ما من نهاية الألفية الثالثة وبداية الألفية الثانية قبل الميلاد، إلا أنه استمر استخدام اللغة السومرية كلغة مقدسة إضافة إلى استخدامها كلغة للطقوس والآداب، بل وكلغة علم في "بابل" و "آشور" إلى حدود القرن الأول قبل الميلاد. 
لوح كتابة مبكر يسجل حصص الجعة حوالي 3100-3000 ق.م، المتحف البريطاني (لندن).

وبخصوص الدين السومري، ربط السومريون لاهوتهم بجميع الموضوعات المتعلقة بحياتهم وأظهروا التواضع في مواجهة القوى الكونية مثل الموت والغضب الإلهي. 
جزء من نقش بارز لامراة جالسة (2255-2040 ق.م) ـ اللوفر.

ويبدو أن الديانة السومرية قد تأسست على أسطورتين كوسموجينيتين منفصلتين، وترى أولاهما الخلق كنتيجة لسلسلة من "الهييروس غاموس" أو الزيجات المقدسة التي تنطوي على التوفيق بين الأضداد والتي افترض أنها جمعت بين الآلهة من الذكور والإناث، واستمرت هذه الرؤية في التأثير على ميثولوجيا بلاد الرافدين بأكملها، وهكذا، نجد في "الإينوما إيليش" الأكادية اللاحقة الخلق باعتباره اتحادا بين المياه العذبة والمالحة؛ الذكر "أمزو" والأنثى "تيامات"، وكان نتاجا لذلك الاتحاد "لحم" و "لحمو" "الشخصيتان الطينيتان"، وهكذا ظهرت الجزر الطينية من التقاء المياه العذبة والمالحة عند مصب الفرات، حيث أودع النهر حمولته من الطمي، وقد افترض أن الزيجة المقدسة التالية كانت بين "أنشار" و "كيشار"؛ المحور السماوي والمحور الأرضي، والدي "آنو" (السماء) و "كي" (الأرض)، ثم تمت زيجة سومرية مقدسة أخرى بين "كي" المعروفة هنا باسم "ننهورساج" أو "سيدة الجبال" و "إنكي" "إريدو" رب المياه العذبة التي جلبت الخضرة والمراعي. 

وفي مرحلة مبكرة بعد فجر التاريخ حلت "نيبور" في وسط "ميسوبوتاميا" محل "إريدو" كمدينة المعبد الرئيسية التي مارس كهنتها الهيمنة السياسية على دول المدن الأخرى، واحتفظت "نيبور" بهذا الوضع طوال الفترة السومرية. 

وقد اعتقد السومريون بتعدد الآلهة المجسمة أو عدة آلهة في شكل إنسان. ولم تكن هناك مجموعة مشتركة من الآلهة، حيث كان لكل مدينة دولة رعاتها ومعابدها وملوكها الكهنة، إلا أن هذا الوضع لم يكن دائما، فغالبا ما كان يتم الاعتراف بآلهة مدينة معينة في مكان آخر، وكان المتحدثون بالسومرية من بين أوائل الشعوب التي سجلت معتقداتها كتابة، وكانوا مصدر إلهام رئيسي في الأساطير والتنجيم والميثولوجيا والأديان التي سادت في بلاد ما بين النهرين لاحقا. 
ختم أسطوانة أكادي في فترة ما حوالي 2300 ق.م يصور الآلهة "إيزيمود" و "إنكي" و "أوتو" و "إنانا".

وعبد السومريون: 

· آنو: كإله كامل الوقت المعادل للسماء، وتعني كلمة "آن" في السومرية السماء ورفيقته "كي" تعني الأرض. 

· إنكي: كان "إنكي" ـ جنوبا في معبد "إريدو" ـ إله الإحسان والحكمة، وحاكم أعماق المياه العذبة تحت الأرض، وهو شاف وصديق للإنسانية والذي كان يعتقد في الأسطورة السومرية أنه أعطى للبشر الفنون والعلوم والصناعات وآداب الحضارة واعتبر أول نص قانوني هو خلقه. 

· إنليل: كان إله العواصف والرياح والأمطار والإله الرئيسي في البانثيون السومري والإله الراعي "لنيبور"، وكانت شريكته "نينليل" ربة الرياح الجنوبية. 

· إنانا: كانت إلهة الحب والجمال والجنس والبغاء والحرب وتأليه الزهرة النجم الصباحي (الشرقي) والمسائي (الغربي) وعبدت في معبد مشترك مع "آنو" في "أوروك" وربما يكون الملوك المؤلهون قد أعادوا سن زواج "إنانا" و "دوموزيد" بالكاهنات. 

· إله الشمس "أوتو" في"لارسا" جنوبا وفي "سيبار" شمالا. 

· إله القمر "سين" في "أور". 

وشكلت هذه الآلهة المعبودات الأساسية، إضافة إلى مئات الآلهة الصغار، وهكذا أمكن للآلهة السومرية أن تكون لها روابط مع مدن مختلفة، وغالبا ما تضاءلت أهميتها الدينية بتضاؤل الأهمية السياسية لتلك المدن، وقيل أن الآلهة خلقت البشر من طين لغرض خدمتهم، ونظمت المعابد مشاريع العمل الجماعي اللازمة لزراعة الري، وكان على المواطنين واجب العمل تجاه المعبد على الرغم من أنه كان في الإمكان تجنب ذلك من خلال دفع الفضة. 
البانثيون الأكادي ـ السومري المبكر.

واعتقد السومريون أن الكون عبارة عن قرص مسطح محاط بقبة، وشاركت الدينونة السومرية في النزول إلى العالم السفلي القاتم لإمضاء الأبدية في وجود بائس سمي "جيديم" (الشبح). 

وانقسم الكون السومري إلى أربعة أرباع: 

· إلى الشمال: كان "السوبارتو" الذين سكنوا التل، والذين كانوا يغيرون بشكل دوري بحثا عن العبيد والأخشاب والمواد الخام الأخرى. 

· إلى الغرب: كان سكان الخيام "مارتو" (العموريون) وهم شعوب قديمة ناطقة بالسامية عاشوا كبدو رعاة يرعون قطعان الأغنام والماعز. 

· إلى الجنوب: كانت أرض "دلمون" وهي دولة تجارية مرتبطة بأرض الموتى ومكان الخلق. 

· إلى الشرق: كان العيلاميون وهم شعب منافس للسومريين وكانوا في كثير من الأحيان في حالة حرب معهم. 

وامتد عالم السومريين المعروف من البحر الأعلى أو ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأدنى أو الخليج العربي وأرض "ملوحة" (ربما وادي السند) و "مجان" (عمان) المشهورة بخاماتها من النحاس. 

وكان لكل واحدة من الزقورات (المعابد السومرية) إسم منفرد وتكونت من فناء أمامي وبركة مائية مركزية للطهارة، وكان للمعبد نفسه صحن مركزي مع ممرات على جانبيه وكانت تحيط بهذه الممرات غرف الكهنة وفي نهاياتها كانت تنتصب منصة وطاولة للتضحيات الحيوانية والخضروية، وكانت مخازن الحبوب والمستودعات تقع عادة بالقرب من المعابد، وكان السومريون بعد فترة من نهوض حضارتهم قد شرعوا في تشييد المعابد ذات القمم رباعية الزوايا والطبقات المتعددة المبنية على شكل سلسلة من المدرجات المرتفعة التي أدت إلى ظهور أسلوب الزقورات. 

وكان يعتقد أنه عندما يموت الناس فإنهم سيكونون حبيسي عالم قاتم هو عالم "أرشكيجال" السفلي الذي كان يحرس بواباته وحوش مختلفة أنشئت لمنع الناس من الدخول أو المغادرة، وكان يتم دفن الموتى خارج أسوار المدينة في المقابر حيث يغطي كثيب صغير جثة الميت إلى جانب القرابين المقدمة للوحوش وكمية صغيرة من الطعام، وسعى الأثرياء إلى الدفن في "دلمون"، وتم العثور على تضحيات بشرية في حفر الموت في مقبرة "أور" الملكية حيث رافق عبيد الملكة "بوابي" مثلا هذه الأخيرة في موتها.
المرجع:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ثقافة بازيريك

هي ثقافة تنتمي إلى الحضارة السكيثية البدوية التي تنتمي إلى العصر الحديدي الممتد من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تم التعرف ...