الأربعاء، 16 أكتوبر 2019

خطوط نازكا


تعتبر خطوط "نازكا" مجموعة من تصاميم "الجيوغليف" الكبيرة جدا شُكلت من المنخفضات والشقوق السطحية المعدة من التراب في صحراء "نازكا" جنوب "بيرو"، وتم إنجاز هذه الخطوط بين 500 ق.م و 500 م تقريبا. 

وقد رسمت معظم الخطوط بشكل مستقيم معبرة عن المناظر الطبيعية بما في ذلك تصميمات تصورية للحيوانات والنباتات، ويبلغ قياس هذه التصاميم الفردية بين 0.4 و 1.1 كلم ويزيد الطول الإجمالي لكل الخطوط عن 1300 كلم وتغطي المجموعة بأكملها مساحة تبلغ حوالي 50 كلم مربع، ويتراوح عمق هذه الخطوط عادة بين 10 و 15 سم، وقد تم تصنيعها عن طريق إزالة الطبقة العليا من الحصى المطلية بأوكسيد الحديد البني المحمر لتكشف عن باطن الأرض الأصفر الرمادي. ويختلف عرض هذه الخطوط اختلافا كبيرا ما بين نصف وثلث كلم في بعض المواضع و 30.5 سم في مواضع أخرى أو 1.8 م. 

ويمكن النظر بشكل أفضل إلى بعض خطوط "نازكا" من الجو (من علو 457 متر تقريبا) على الرغم من أنه يمكن رؤيتها من التلال المحيطة وغيرها من الأماكن المرتفعة كذلك، وعادة ما تكون الأشكال مصنوعة من خط واحد مستمر ويبلغ طول أكبرها 370 متر، وبسبب عزلتها والعوامل المناخية تم الحفاظ على معظم هذه الخطوط بشكل طبيعي رغم حدوث بعض التغييرات الطفيفة بسبب الطقس شملت بعض التصاميم العامة، واعتبارا من عام 2012 يبدو أن هذه الخطوط بدأت تتدهور بسبب التدفق السكاني على المنطقة. 

وتختلف الخطوط في التعقيد، فالمئات منها عبارة عن خطوط بسيطة وأشكال جيومترية وأكثر من 70 % من التصاميم تتعلق بحيوانات مثل طيور الطنان والعناكب والأسماك واللاما ونمور الجاغوار والقردة والسحليات والكلاب إضافة إلى البشر، أما باقي الأشكال فتمثل الأشجار والأزهار، وقد اختلف العلماء في تفسير الغرض من هذه التصاميم، ولكن بشكل عام، يعزون لهذه الخطوط أهمية دينية بالنسبة لصانعيها، هذه الخطوط التي تم اختيارها كموقع تراث عالمي لليونسكو عام 1994. 

وتمتد الهضبة المرتفعة القاحلة التي رسمت عليها الخطوط على مسافة تزيد عن 80 كلم بين مدينتي "نازكا" و "بالبا" في "بامباس دي خومانا" وعلى بعد حوالي 400 كلم جنوب "ليما" العاصمة، ورغم أن بعض هذه التصاميم يشبه إلى حد ما زخارف حضارة "باراكاس" فإن العلماء يعتقدون أنها صممت على يد شعب "نازكا". 

وقد كان أول ذكر منشور لخطوط "نازكا" من قبل "بيدرو سيزا دي ليون" في كتابه سنة 1553، واعتقد مخطئا أنها كانت تشويرات طرقية. 

وفي 1586 ذكر "لويس مونزون" أنه شاهد آثارا قديمة في "بيرو" بما في ذلك "بقايا طرق". وعلى الرغم من أن الخطوط كانت مرئية جزئيا من التلال القريبة فإن أول من أبلغ عنها كان الطيارون البيروفيون العسكريون منهم والمدنيين. 

وفي سنة 1927 قام عالم الآثار البيروفي "توريبيو ميخيا تشيسبي" باكتشاف الخطوط أثناء تنزهه عبر التلال وناقش هذا الاكتشاف في مؤتمر عقد في "ليما" سنة 1939. 

ويعتبر المؤرخ الأمريكي من جامعة "لونغ آيلاند" "بول كوسوك" أول باحث يدرس خطوط "نازكا" بإسهاب، حيث أنه عندما كان متواجدا في "بيرو" بين 1940 و 1941 لدراسة أنظمة الري القديمة لشعوب المنطقة قام بالتحليق فوق الخطوط وأدرك أن أحدها كان على شكل طائر، وساعدته فرصة أخرى في رؤية كيف أن تلك الخطوط كانت متقاربة عند الانقلاب الشتوي في نصف الأرض الجنوبي. وقد شرع "كوسوك" في دراسة كيفية إنشاء الخطوط وكذلك محاولة تحديد الغرض منها وانضم إليه عالم الآثار "ريتشارد بي سكيدل" من الولايات المتحدة الأمريكية والرياضية الألمانية وعالمة الآثار "ماريا رايشه" من "ليما" قصد المساعدة في تحديد الغرض من خطوط "نازكا"، ومن بين الأسباب الأولية التي اقترحوها لوجود هذه الخطوط أن تكون عبارة عن علامات أفقية لإظهار ارتفاع الشمس وغيرها من الأجرام السماوية عند حلول التواريخ المهمة. 

وقد كان تحديد كيفية صنع خطوط "نازكا" أسهل من تحديد سبب صنعها، وقام العلماء بوضع نظريات مفادها أن الناس في "نازكا" استخدموا أدوات بسيطة ومعدات مسح لإنجاز الخطوط، وقد أوجدت المسوحات الأثرية أوتادا خشبية في الأرض عند نهايات بعض الخطوط، الأمر الذي دعم نظريتهم تلك، وكان أحد هذه الأوتاد أساسا لتحديد عصر مجموعة التصاميم تلك بعد إّخضاعه للكاربون. 

وفي سبيل دحض فرضية "إريك فون دانكن" بأن الخطوط أنشئت من قبل "رواد الفضاء القدامى" قام المتشكك البارز "جو نيكل" بإعادة إنتاج شخصيات الخطوط باستخدام الأدوات والتقنيات المتاحة لشعب "نازكا"، ووصفت مجلة "العلمية الأمريكية" أعماله بأنها "رائعة في دقتها" مقارنة بالخطوط الموجودة، ومن خلال التخطيط والتقنيات البسيطة المستخدمة أثبت "نيكل" أنه يمكن لفريق صغير من الناس إعادة إنشاء أكبر الأشكال خلال أيام دون أي مساعدة جوية. 

وتم تشكيل معظم الخطوط على الأرض بواسطة خنادق سطحية بعمق يتراوح بين 10 و 15 سنتيم كما سبقت الإشارة وتم صنعها عن طريق إزالة الحصى المطلية بأوكسيد الحديد البني المحمر التي تغطي سطح صحراء "نازكا"، وعندما تزال هذه الحصى فإنها تكشف عن تربة طينية ذات ألوان فاتحة أسفل الخندق وتنتج بالتالي خطوطا تتناقض بشكل واضح في اللون مع سطح الأرض المحيط، وتحتوي هذه الطبقة الفرعية على كميات كبيرة من الجير تتصلب مع ضباب الصباح لتشكل طبقة واقية تحمي الخطوط من الرياح ومن ثم تمنع تآكلها. 

وقام شعب "نازكا" بنحت عدة مئات من الأشكال الحيوانية والبشرية البسيطة والضخمة، ولكون صحراء "نازكا" واحدة من أكثر المناطق جفافا على سطح الأرض فقد حفظ الخطوط بشكل جيد في بيئة لا تتجاوز حرارتها معدل 27 درجة مئوية على مدار السنة، كما ساعد نقصان الريح في إبقاء الخطوط مكشوفة ومرئية. 

وقد تم الإعلان عن اكتشاف شكلين صغيرين جديدين أوائل عام 2011 من قبل فريق ياباني من جامعة "ياماغاتا" يشبه أحدهما رأسا بشريا ويرجع تاريخه إلى فترة مبكرة من حضارة "نازكا" أو وفي وقت أبكر، والآخر غير مؤرخ عبارة عن حيوان. وفي مارس 2012، أعلنت الجامعة عن افتتاح مركز أبحاث جديد في الموقع في سبتمبر 2012 لدراسة المنطقة لمدة 15 عاما، وأدار فريق العمل ميدان الأبحاث هناك منذ 2006 والذي اكتشف ما يقرب من 100 جيوغليف جديد. 

ويصف مقال نشر في مجلة "سميثسونيان" في يونيو 2019 العمل الذي قام به مؤخرا فريق من ثلاثة باحثين يابانيين حددوا وأعادوا تحديد بعض الطيور التي تم تصويرها. 

وتعتبر حضارة "باراكاس" السلف الذي أثر في تطوير خطوط "نازكا"، وفي عام 2018 كشفت الطائرات بدون طيار التي يستخدمها علماء الآثار العديد من الجيوغليفات في مقاطعة "بالبا" المعينة كجزء من حضارة "باراكاس" التي سبقت ـ حسب زعم البعض ـ خطوط "نازكا" بألف سنة تقريبا، ويظهر البعض الآخر اختلافا كبيرا في الموضوعات والمواقع، ويشير الباحث المشارك في الاكتشاف وعالم الآثار البيروفي "لويس خايمي كاستيلو باتيرز" إلى أن العديد من هذه الجيوغليفات المكتشفة تمثل محاربين. 

وقد درس علماء الآثار بمعية علماء الأنثولوجيا والأنثروبولوجيا حضارة "نازكا" القديمة في محاولة لتحديد الغرض من الخطوط والأشكال، وتقول إحدى الفرضيات في هذا الخصوص بأن شعب "نازكا" خلقوا هذه الأشكال لتكون مرئية من قبل الآلهة في السماء. 

وقدم "بول كوسوك" و "ماريا رايشه" أغراضا أخرى مرتبطة بعلم الفلك والكونيات، كما كان شائعا في الحضارات الأخرى، وكانت الخطوط تهدف إلى أن تكون نوعا من المراصد الفلكية للإشارة إلى الأماكن في الأفق البعيد حيث ترتفع الشمس والأجرام السماوية الأخرى أو تأفل في الانقلابات الشتوية، وقد بنت العديد من الحضارات المجاورة أعمالا ترابطية جمعت بين الرؤية الفلكية وعلم الكونيات الديني، كما هو الشأن بالنسبة لحضارة "الميسيسيبي" المتأخرة في "كاهوكيا" ومواقع أخرى مختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية علاوة على موقع آخر في "إنجلترا" هو "ستونهنج". وخلص الخبيران في علم الآثار الفلكي أو "الأركيوأسترونوميا" "جيرالد هاوكينز" و "أنتوني أفيني" سنة 1990 إلى أن الأدلة لم تكن كافية لدعم مثل هذا التفسير الفلكي. 

وأكدت "ماريا رايشه" أن بعض أو كل هذه الأشكال تمثل الأبراج الفلكية، وبحلول عام 1998 خلصت "فيليس بي بيتلوغا" أحد كبار علماء الفلك في قبة "أدلر بلانيتاريوم" في "شيكاغو" إلى أن الأشكال الحيوانية تمثل الأشكال السماوية، ووفقا لصحيفة "نيويورك تايمز" فإن الأمر لم يكن يتعلق بالأبراج المتعارف عليها بل "بأبراج مضادة" الممثلة بواسطة بقع غير منتظمة داخل الامتداد المتلألئ لدرب التبانة. 

وكان "ألبرتو راسل كاسترو" قد اقترح سنة 1977 تفسيرا متعدد الوظائف للجيوغليفات، حيث قام بتصنيفها إلى ثلاثة مجموعات: المجموعة الأولى ارتبطت بمسارات الري وتقسيم الحقول، والمجموعة الثانية عبارة عن خطوط محاور متصلة بالتلال وأكوام الحجارة، أما المجموعة الثالثة فارتبطت بالتفسيرات الفلكية. 

وفي سنة 1985، نشر عالم الآثار "يوهان راينهارد" بيانات أثرية إثنوغرافية وتاريخية توضح أن عبادة الجبال ومنابع المياه الأخرى كانت سائدة في معتقدات شعب "نازكا" منذ العصور الغابرة إلى غاية الآن، ونظرا إلى أن هذه الخطوط كانت جزءا من الممارسات الدينية التي تنطوي على عبادة الآلهة المرتبطة بوفرة المياه، والتي اتصلت بشكل وثيق بوفرة المحاصيل، فإن الغاية من تلك الرموز كانت الدلالة على الحيوانات وباقي الأشياء التي تهدف إلى استدعاء معونة الآلهة في توفير المياه، على أنه لاتزال المعاني الدقيقة للكثير من الجيوغليفات الفردية غير معروفة. 

وقد نشر المؤرخ الفني السويسري والمتخصص في آثار الشرق الأوسط ومصر "هنري ستيرلين" كتابا في عام 1983 ربط فيه خطوط "نازكا" بإنتاج المنسوجات القديمة التي كان قد اكتشفها علماء الآثار وقد لفت بها مومياوات في مواقع حضارة "باراكاس"، وزعم أن الناس ربما استخدموا تلك الخطوط والسمات كأنوال عملاقة تلوح في الأفق لتصنيع خيوط طويلة للغاية وقطع واسعة من المنسوجات النموذجية في المنطقة، ووفقا لنظريته، فإن الأنماط التصويرية ـ الأصغر والأقل شيوعا ـ كانت مخصصة فقط للأغراض الشعائرية، إلا أن نظريته هذه لم تلقى قبولا على نطاق واسع، على الرغم من أن العلماء لاحظوا أوجه التشابه في الأنماط بين المنسوجات الباراكاسية وخطوط "نازكا" إلا أنهم فسروا هذا التشابه بكونه نشأ نتيجة للثقافة المشتركة للحضارتين. 

وتم إجراء أول دراسة ميدانية للجيوغليفات بواسطة "ماركوس رينديل" و "جوني كوادرادو آيلاند"، ومنذ سنة 1996، قاما بتوثيق وحفر أكثر من 650 موقع، وقارنا أيقونات الخطوط بالمنتوجات الخزفية لحضارة "نازكا"، وكعالمي آثار، فإنهما اعتقدا بأنه يمكن تأريخ تلك الزخارف التصويرية إلى فترة ممتدة بين 600 و 200 ق.م. 

واستنادا إلى نتائج التحقيقات الجيوفيزيائية ومراقبة العيوب الجيولوجية أثير جدل حول اتباع الجيوغليفات لمسارات طبقات المياه الجوفية من موضع تجميع القنوات المائية (أو البوكيوس Puquios) لمياه الأمطار. وكان كل من "نيكولا ماسيني" و "جوسيبي أوريفيتشي" قد أجريا بحثا في "بامبا دي أتاركو" (على بعد حوالي 10 كلم جنوب "بامبا دي ناسكا") حيث اعتقدا أنهما تمكنا من الكشف عن العلاقة المكانية والوظيفية والدينية بين الجيوغليفات ومعابد "كاهواتشي"، وقد باشرا تحقيقاتهما باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد ووجدا خمس مجموعات من الجيوغليفات يتميز كل واحد منها بنموذج وشكل محدد ويرتبط بوظيفة مميزة. وحدد العالمان إحدى هذه الجيوغليفات الذي تميز بطبيعة احتفالية من خلال زخارف متعرجة، أما الآخر فتم تحديد وظيفته في الأغراض التقويمية، وعلى غرار الباحثين السابقين، اعتقد العالمان الإيطاليان أن الجيوغليفات كانت عبارة عن مسرح للأحداث المرتبطة بالتقويم الزراعي وساهمت علاوة على ذلك في تعزيز التماسك الاجتماعي بين مجموعات مختلفة من الحجاج وتبادل الأسلاف والمعتقدات الدينية المشتركة. 

ومع ذلك فقد ظهرت مجموعة من التفسيرات البديلة لخطوط "نازكا"، حيث أشارت نظريات أخرى إلى أن الخطوط الهندسية يمكن أن تشير إلى تدفق المياه أو مخططات الري أو أن تكون جزءا من طقوس "استدعاء" المياه، كما قد تكون العناكب والطيور النباتات رموزا للخصوبة، وافتُرِض أيضا أن الخطوط يمكن أن تكون بمثابة تقويم فلكي. 

وكانت "فيليس بيتلوغا" كبيرة علماء الفلك في قبة "أدلر بلانيتاريوم" قد أجرت دراسات مدعومة بالحاسوب لمحاذاة النجوم، وأكدت هذه الدراسات أن شخصية العنكبوت العملاقة مثلا هي صورة بصرية مشوهة "لنطاق الجبار"، وفي نقد تحليلها، لاحظ الدكتور "أنتوني إف أفيني" أنها لم تفسر الخطوط الـ 12 الأخرى من الشخصية. 

ونظر بهذا الخصوص "جيم وودمان" بأن خطوط "نازكا" لم يكن من الممكن صنعها بدون شكل من أشكال الطيران لمراقبة الأشكال بطريقة صحيحة، وبناء على دراسته للتكنولوجيا المتاحة آنذاك، فإنه يشير إلى أن منطاد الهواء الساخن كان الوسيلة الوحيدة الممكنة للطيران عند إنشاء الخطوط، ولاختبار هذه الفرضية، صنع "وودمان" منطادا باستخدام المواد والتقنيات التي فهم أنها كانت متاحة لشعب "نازكا" وتمكن المنطاد من الطيران، إلا أن معظم العلماء رفضوا أطروحة "وودمان" بسبب عدم وجود أي دليل على مثل هذه المناطيد في تلك الحقبة. 

وغير بعيد عن خطوط "نازكا"، وبالضبط في مقاطعة "بالبا"، "بيرو"، اكتشف علماء الآثار حديثا أكثر من 25 جيوغليفا منقوشا على سفوح التلال الصحراوية، وعرفت هذه الرسوم باسم جيوغليفات "باراكاس"، واعتبر الخبراء أن هذه الخطوط هي أقدم بمئات السنين إن لم يكن بألف سنة من خطوط "نازكا"، وتم بناء هذه الخطوط بواسطة الحضارة البيروفية الهندية القديمة في "باراكاس".
ويبقى إلى غاية يومنا هذا من غير المعروف على وجه الدقة الغرض من إحداث خطوط حضارة "نازكا" الهندية تلك.
المرجع: بتصرف عن:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ثقافة بازيريك

هي ثقافة تنتمي إلى الحضارة السكيثية البدوية التي تنتمي إلى العصر الحديدي الممتد من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تم التعرف ...