الجمعة، 19 يوليو 2019

الأوفيتيون

 الأفعى النحاسية (رسم توضيحي من بطاقة الكتاب المقدس التي نشرتها شركة بروفيدنس للطباعة الحجرية عام 1907).

سمي "الأوفيتيون" بذلك نسبة إلى "أوفيس" "Ophis"، أي الأفعى في اليونانية، وقد كانوا أعضاء طائفة مسيحية غنوصية ذكرهم بهذا الإسم أولا "هيبوليتوس الرومي" (170-235) في عمل مفقود بعنوان "سينتاغما" أو "التنظيم". ويعتقد أن الكُتاب اللاحقين الذين تحدثوا عن "الأوفيتيين" من قبيل "بسيدو-ترتليان" و "فيلاستريوس" و "إبيفانيوس السلاميسي" اعتمدوا جميعا على "سينتاغما هيبوليتوس" المفقودة، ومن المحتمل كذلك، أن سبب تسمية هذه الطائفة بهذا الإسم من قبل "هيبوليتوس" يرجع إلى هرطقاتها المستمدة من قصة الحية "جنيسيس" أو "حية موسى".

وبعيدا عن المصادر التي اعتمدت مباشرة على "هيبوليتوس"، فقد أشار كذلك كل من "أوريجانوس" و "إكليمندس" الإسكندريان إلى هذه الطائفة، كما تمت الإشارة إليها من قبل "إيرينيوس" في "أدفيرسوس هيريسيس" (ضد الهرطقات).

لقد كان بسيدو-ترتليان أول مصدر محفوظ أشار إلى "الأوفيتيين" بهذا الإسم، وأول مصدر كذلك يناقش علاقتهم الرمزية بالحيات، ويزعم أن "الأوفيتيين" كانوا يعتقدون أن "المسيح لم يتكون من لحم، وكانوا يمجدون الحية ويفضلونها على المسيح، معتبرين المسيح قلد "القوة المقدسة" لحيات موسى، معتمدين على القولة التالية: "وكما رفع موسى الحية في البرية فينبغي لابن الإنسان أن يُرفع"، إضافة إلى ذلك فحواء حسب هؤلاء "الأوفيتيين" آمنت بالحية كما لو كانت الإله الإبن". إلا أنه لم تتم الإشارة إلى إسم "يسوع" عند بسيدو-ترتليان، وقد توافق مقال "إبيفانيوس" مع أغلب ما ذهب إليه بسيدو-ترتليان غير أن "الأوفيتيين" ـ بحسبه ـ لم يفضلوا الحية على المسيح بل اعتقدوا أنهما متطابقان.

وفي مقالة "هيبوليتوس" الأولى التي فقدت وهي "السينتاغما"، يظهر ـ اعتمادا على المراجع اللاحقة التي ذكرتها ـ أنها تضمنت قسما عن "الأوفيتيين"، وقسما آخر عن "النيكوليتانيين" الذين ارتبطوا معهم، وقد قام الأسقف "فيلاستريوس" عن طريق الخطإ بنقل هذا واثنين من الأقسام الأخرى، بادئا رسالته عن البدع "بالأوفيتيين"، وجاعلا "الأوفيتيين" و "القايينيين" و "الشيثيين" "طوائف سبقت وجود المسيحية"، ويبدو أن القسم الخاص "بهيبوليتوس" عن "الأوفيتيين" تضمن تقديما موجزا للقصة الأسطورية المحكية من قبل "إيرينيئوس" (سيتم التطرق إليها أدناه)، وبتحديده لاسم "أوفيت" يبدو أن "هيبوليتوس" كان أكثر دقة بشأن هذه الطائفة من "إيرينيئوس" وأوضح مميزاتها التي تمثلت أساسا في إجلالها للحية التي فضلوها على المسيح، وكان منطلق تبجيلهم لها أنها علمت "آباءنا" معرفة الخير والشر، معتمدين في مراجعهم على قصة "حية النحاس" في العهدين القديم والجديد، وعرضهم للحية داخل احتفالاتهم الأفخارستية.

كما تناول "هيبوليتوس" هذه الطائفة في رسالة أخرى له بعنوان "فيلوسوفيمينا" واختلفت رسالته الأولى "السينتاغما" عن رسالته هذه لأنها كانت مجرد تصنيف للطوائف الغنوصية، وأطروحة "هيبوليتوس" حول البدع فيها كانت مستمدة أساسا من محاضرات "إيرينيئوس"، لكن أثناء كتابة الرسالة الثانية، كان "هيبوليتوس" قد اطلع بنفسه على مجموعة مختلفة من الكتابات البدعية التي كان لها الأثر البين فيها، وأشار "هيبوليتوس" في كتابه الثاني باحتقار إلى "الأوفيتيين" علاوة على "القايينيين" و "النيكوليتانيين" معتبرا إياهم زنادقة وأن عقائدهم لم تكن تستحق أي استعراض أو دحض جادين.

ويظهر أن "هيبوليتوس" ميز هؤلاء "الزنادقة" عن أولئك الذين ذكرهم في كتابه الخامس والذي تعامل فيه مع مختلف الطوائف التي بجلت الحية، وأعطى لأولى هذه الطوائف إسم "النحشيون"، وهو لقب استمد من الكلمة العبرية للحية "ناحاش נחש"، ومن المحتمل أن "هيبوليتوس" حصر إسم "الأوفيتيين" على طائفة كان قد وصفها "إيرينيئوس" والتي كان لديها قواسم مشتركة قليلة للغاية مع الطائفة التي دعاها "بالنحشيين"، هذا الكتاب اشتمل على مختلف أنظمة "الأوفيت" الأخرى من "البيراتيين" و "الشيثيين" و "الجوستينوسيين"

وباستقراء ما جاء في محاضرات "إيرينيئوس" (المتوفى سنة 202) عن البدع المسيحية نجده اعتمد ـ فيما يبدو ـ ترتيبا كرونولوجيا للبدع والهراطقة، بادئا "بسمعان المجوسي" ومنتهيا "بتاتيان السوري"، ومضيفا – كملحق – وصفا لتشكيلة الطوائف الغنوصية ـ من بينها "الأوفيتية" ـ ومستنبطا أصولها، على أن هذه الكرونولوجيا لا تعتبر دقيقة تاريخيا من قبل معظم المؤلفين المعاصرين.
"أنيولو برونزينو": الحية النحاسية، من كنيسة "إليانور الطليطلية"، فلورنسيا، قصر فيكيو.

وفصل "إيرينيوس" ما عُرف من قبل كتاب لاحقين "كوسموجونيا الأوفيت"، أو "تأصيل الكون حسب الاعتقاد الأوفيتي"، فالكون بدأ كسلسلة متعاقبة من الانبعاثات على النحو الآتي:

· الكنيسة الحقيقية المقدسة:

ـ بيثوس (العمق):

ـ أبو الجميع (الرجل الأول).

ـ إنوا، ابن الرجل (الرجل الثاني).

ـ الروح القدس، المرأة الأولى.

ـ الماء.

ـ الظلام.

ـ الهاوية.

ـ الشواش.

ومن جمال الروح القدس، تُيم الرجل الأول والثاني، فأنجبا منها ذكرا ثالثا، طاهرا، مضيئا، يدعى "كريست".

لكن فائض الضوء الذي كانت "روح القدس" مشربة به فاق ما يمكنها احتواؤه، وبينما كان "كريست" الوليد في ذراعها اليمنى محمولا إلى الأعلى معها، مشكلا مع الرجل الأول والثاني "الكنيسة الحقيقية المقدسة"، سقطت قطرة من الضوء على يدها اليسرى ومن ثم إلى الأسفل في عالم المادة، فدُعيت تلك القطرة "صوفيا" (الحكمة) أو "برونيكوس" وكانت كائنا خنثويا.

وبهذا الوصول إلى العالم السفلي ضُبطت حركة المياه الساكنة، وكل الأشياء أسرعت لاحتضان نقطة الضوء السائلة تلك، وطفقت "برونيكوس" تلعب بشكل عدواني مع المياه، واصطنعت بذلك لنفسها جسدا، وبدون الحماية التي كان عليها الضوء من قبل أصبحت "صوفيا" مهددة بخطر الامتصاص الكامل من المادة، وهكذا، عندما اضطهدت بفظاظة محيطها، سعت إلى الهروب من المياه والصعود إلى والدتها، فأثقلها الجسد، ولم يكن بمقدورها سوى أن تجرف نفسها فوق المياه، مشكلة السماء المرئية، ومع ذلك، من شدة الرغبة كانت قادرة على تحرير نفسها من عبء الجسد وتركه خلفها للصعود إلى المنطقة التي فوقها مباشرة، هذه المنطقة التي كانت تدعى في لغة طائفة غنوصية أخرى "المنطقة الوسطى".

وفي هذه الأثناء، وُلد لها إبن، "يالدابوث"، وأعطته بعض الأنفاس من الضوء الخالص بقيت لها من والدتها، وعن طريق ما قامت به، ولد "يالدابوث" من الماء ولدا من غير أم، حتى كان له سبعة "أرخونات" في كل شيء، يحكمون السماوات السبع، السماء الأدنى "هيبدوماد" التي أكملتها أمهاتها داخل "أجدود" (جارة العالم الأولى):

· يالدابوث (يالدا باوث = إبن الشواش) "الديميرج".

· ياو.

· سبعوث.

· أدونيوس.

· إليوس.

· أستفانوس.

· هوريوس (الضوء).

لكن جاء أن هؤلاء الأبناء سعوا إلى السيادة مع والدهم "يالدابوث"، فعانى هذا من آلام كبيرة، وألقى نظرته اليائسة على بقايا المادة أدناه، من خلالهم، أدمج رغبته وحصل على إبن هو "أوفيومورفوس"، وهو "النوص" الذي جاء في شكل حية، من حيث جاءت الروح والضمير، وكل شيء في هذا العالم السفلي، لكن كذلك من حيث جاء النسيان، والخبث، والغيرة، والحسد، والموت، ومد "يالدابوث" نفسه فوق سمائه العليا، كان قد خرج من كل شيء دون معرفة أن هناك أي شيء أعلى من نفسه، راضيا عن نفسه مفاخرا الأبناء الذين أنجب دون عون من أمه، وصرخ:

"أنا الأب والإله، وفوقي، لا يوجد أحد".

وسمعته أمه فصرخت:

"لا تكذب، "يالدابوث"، في الأعلى يوجد أب الجميع، الرجل الأول، وابن الرجل".

وعندما تعجبت القوى السماوية من هذا الصوت، وحتى يشوش "يالدابوث" انتباهها، هتف: "دعونا نخلق الإنسان على صورتنا"، ثم شكلت القوى الست رجلا عملاقا، وساعدت الأم "صوفيا" في تصميمه، لعلها تستعيد السائل الخفيف من "يالدابوث"، واستلقى الرجل الذي شكلته القوى الست، دون أن يستطيع رفع نفسه، يتلوى مثل دودة، إلى أن أحضروه إلى والده الذي تنفس فيه روح الحياة، فأفرغ نفسه من قوته، لكن الرجل حصل على الفكر والروح ("النوص" و "الإنثيميسيس") وقدم هذا المخلوق الشكر للرجل الأول، متجاهلا أولئك الذين صنعوه.

فشعر "يالدابوث" بالغيرة، وخطط لإسقاط "الرجل" عن طريق "امرأة"، فشكل "حواء" التي تيمت القوى الست بجمالها، وأنجبت أبناء منها وهم "الملائكة"، عندئذ ابتكرت "صوفيا" حيلة عن طريق "الحية" لإغواء حواء وآدم ودفعهما لانتهاك وصية "يالدابوث"، وقد قبلت حواء نصيحة من بدا ابن الإله، وأقنعت آدم أيضا ليأكل من الشجرة المحرمة، وعندما أكلا منها اكتسبا معرفة القوة التي تعلو الجميع، والتي أبطلت من الذين صنعتهم، عندها ألقى "يالدابوث" آدم وحواء خارج الجنة، لكن الأم أفرغتهما سرا من السوائل الخفيفة حتى لا يشتركا في اللعنة أو العار، فطرحا في هذا العالم، وكذلك الحية التي كُشف عملها ضد والدها، وأحضر الملائكة هنا تحت سلطته، وأنجب من نفسه ستة أبناء، نظير "الهيبدوماد" الذي كان والده عضوا فيها، وهذه الشياطين السبعة دائما تعارض وتحبط الجنس البشري وقد أنزلهم والدهم لأجل ذلك.

في البدء كان لآدم وحواء الضوء والوضوح، وكانا جسدان روحيان، وعند سقوطهما صارا باهتين وجافين، وكانت روحاهما متخاذلتان لأنهما فقدا كل شيء إلا أنفاس هذا العالم التي تنفسها خالقه فيهما، فشعرت "برونيكوس" بالشفقة عليهما وأعادت لهما الرائحة الحلوة من السوائل الخفيفة التي استيقظا من خلالها ليعرفا أنهما عاريان".
"ويليم بليك": الغواية وسقوط حواء، 1808 (رسم توضيحي من ملحمة جون ميلتون الشعرية بعنوان الفردوس المفقود).

إن ما سبق هو واضح من صيغة الخلق المعطى في الفصل الأول من سفر التكوين لكن مع فارق رئيسي يظهر فيه الإله الوحيد القدير للقصة التوراتية في شخص "يالدابوث" وهو واحد من من عدة كائنات إلهية، وليس الأكثر أهمية منها، مع ادعائه بالألوهة الحصرية الذي اعتبر غطرسة واغتصابا باطلا منه.

وتمضي القصة قدما لتعطي نسخة لقصة العهد القديم، حيث قُدم "يالدابوث" كمحدث لسلسلة من الجهود للحصول على العشق الحصري لنفسه، والثأر لنفسه من أولئك الذين رفضوا زعمه، في حين أنه تم التصدي له من قبل "برونيكوس" التي سعت إلى تنوير البشرية فيما يتعلق بوجود قوى أعلى تستحق هذا العشق، وعلى وجه الخصوص الأنبياء الذين كان كل واحد منهم عضوا في "الهيبدوماد"، وهدايتهم لتمجيد من كان عبارة عن الثيمة الرئيسية لهم، كما كانوا مُلهَمين من قبل "صوفيا" لخلق وحي متشظي عن الرجل الأول وعن "كريست" أعلاه، والذي تسببت في نزوله أيضا.

وبعدئذ نأتي إلى الإصدار المعطى لقصة العهد الجديد في نظام "الأوفيت"، إذ { لم تكن "صوفيا" مرتاحة في السماء ولا في الأرض، فناشدت مساعدة والدتها، المرأة الأولى، فتحركت بدافع الشفقة على حسرة ابنتها، وتوسلت للرجل الأول كي يُنزل "كريست" لمساعدتها، وعلمت "صوفيا" بالمساعدة القادمة، المعلن قدومها من قبل "يوحنا"، فأعدت معمودية التوبة، وعن طريق ابنها "يالدابوث" استعدت امرأة لتلقي البشارة من "كريست" حتى إذا أتى هناك صارت نقية ووعاء نظيفا لاستقباله، فكان "يسوع"، الذي ولد من عذراء على يد قوة إلهية، هذا الذي كان الأكثر حكمة، الأكثر نقاء، وأكثر صلاحا من أي إنسان آخر، ثم نزل "كريست" من خلال السماوات السبع مع أخذ شكل كل واحد من أبنائه عند نزوله، وحرمان كل واحد من حكامه من سلطته، ومن أجل "كريست" اندفع السائل الخفيف إليه، وعندما جاء إلى هذا العالم وحد نفسه لأول مرة مع شقيقته "صوفيا" وأراحا بعضهما البعض كعريس وعروس، واتحد الإثنان في "يسوع" (على الرغم من أنهما لم يقيما في جسده) هذان اللذان صارا "يسوع المسيح"، ثم بدأ في صنع المعجزات، والإعلان عن الأب المجهول، والإعلان عن نفسه بشكل واضح "كابن الرجل الأول"،وشعر "يالدابوث" وغيره من أمراء "الهيبدوماد" بالغضب، فسعوا إلى صلب "يسوع المسيح"، لكن "صوفيا" و "كريست" لم يشاركانهم رغبتهم هذه، فسحبا نفسيهما داخل "أيون" (حياة) غير قابل للفساد، إلا أن "كريست" لم ينسى "يسوع" بل أرسل قوة رفعت جسده، ليس في الحقيقة جسده الغريب، لأن "اللحم والدم لا يمكن أن يمسكا ملكوت الرب" لكن جسده الروحي والحيواني، فكان "المسيح" الذي لا يصنع المعجزات قبل معموديته عندما اتحد أولا مع "كريست" أو بعد قيامته، وعندما سحب "كريست" نفسه منه، مكث "المسيح" بعد قيامته ثمانية عشر شهرا، في البدء لم يكن هو نفسه يفهم كامل الحقيقة، لكنه أنير من قبل الوحي الذي جعله بعد ذلك يدرس قلة من تلامذته المختارين ثم أخذ بعد ذلك إلى السماء }.

من الواضح إذن أن النظام المعمول به في "الأوفيت" ينطوي على معرفة كبيرة بالعهد القديم، وتبدأ هذه المعرفة "بروح الإله تتحرك على صفحة المياه" وتلخص التاريخ اللاحق، بل تشير إلى الكتبة المقدسين بالأسماء، ومع ذلك فإن هذا العمل المتقارب من اليهودية لا يعني الإخلاص لإله اليهود الذي يمثل عندهم مزيجا من الغطرسة والجهل، ويشن حربا ضد عبادة الأصنام لمجرد حب التمجيد الذاتي، هذا الإله (الذي يناظره "يالدابوث") يتم إحباطه والتغلب عليه باستمرار بمهارة المعرفة المتفوقة حسب زعمهم، وتشير الصفات الأنثوية المنسوبة للروح القدس إلى أن اللغة اليونانية لم تكن اللغة الأصلية لصاحب هذا المذهب، وهذا الاستنتاج مؤكد بسبب غياب العناصر المشتقة من النظم الفلسفية اليونانية، فعلى سبيل المثال، إذا قارنا نظام "الأوفيت" مع نظام "فالنتينوس" سنكتشف الكثير من التوافق في السمات الأساسية، إلا أن النظام "الفالنتيني" يحتوي على العديد من الأشياء المستمدة من الفلسفة اليونانية، في حين أن نظام "الأوفيت" مستمد من مصادر شرقية بحتة، ويبدو أن مدون هذا النظام اطلع بشكل واضح على العهد الجديد كذلك، لإنه يتبنى عبارة من رسالة "بولس" الرسول إلى أهل "كورنثوس"، إنه يعلم أن يسوع تكلم عن نفسه عادة باسم ابن الإنسان، وفي إنكاره أن يسوع قام بمعجزات قبل معموديته، فإنه يتبنى بذلك التاريخ كما سُرد في الأناجيل الرسمية معارضا لما ورد في الأناجيل الأبوكريفية عن طفولته، كما أن المكانة التي تحتلها عقيدة الثالوث في هذا النظام تبقى كبيرة.

وعلى الرغم، من أن إسم "أوفيت" قد أطلق بعد "إيرينيوس" على النظام الذي وصفه، يلاحظ أن الجزء المتعلق بالحية يبقى جزءا ثانويا للغاية في هذا النظام، ففي المقطع التالي للفصل الذي قمنا بتحليله مباشرة، يذكر "إيرينيوس" معلومات عن الطوائف التي تنتمي إلى نظام "الأوفيت" حيث أن بعضها مجد "صوفيا" بذاتها كحية وبعضها مجد "قايين" وأعداء آخرين لإله العهد القديم.

وإذا أردنا تحديد ما نعتبره السمة الأكثر تميزا في هذا النظام فسيكون هو الضوء، هذه الميزة تبقى الأكثر بروزا في النظام المستمد من "البيستيس صوفيا" إذ يشير الضوء إلى "ظهور دائم"، وحيث أن منزلة كل كائن تقاس بإشراق ضوئه، وفي مقطع "أورينيئوس" يوجد كذلك ملخص لنظام تم تسميته "باربيليوت" من استخدامه لاسم "باربيلو" للدلالة على المبدإ النسائي الأسمى، وهو يحتوي على بعض السمات الأساسية لنظام "الأوفيت" والذي يبدو أنه قد تطور فيه.

ويشير "إكليمندس الإسكندري" (150 – 215) عرضا إلى "الأوفيتيين" و "القايينيين" في رسالته بعنوان "ستروماتا" لكنه لا يعطي أي تفسير لمبادئ الطائفتين، ولا يبرز في حديثه الموجز عن "الأوفيتيين" سوى استهجانه لنسائهم اللواتي يستعملن حلي الحيات.

أما "أوريجانوس الإسكندري" (185 – 215) فقد تناول "الأوفيتيين" في كتابه "كونترا سيلسوم" (ضد سيلسوس) في معرض رده على الفيلسوف الوثني "سيلسوس" الذي كان قد ألف كتابا ينتقد فيه المسيحية بعنوان "ألبسيس لوغوس" (الكلمة الحقة) واعتبر "أوريجانوس" أن "سيلسوس" قد خلط بين المسيحيين "والأوفيتيين"، وفي كتابه "التعليق على ماثيو" يصنف "أوريجانوس" الأوفيتيين بأنهم هراطقة من النوع الأكثر خطورة مع أتباع "مرقيون السينوبي" و "فالنتينوس" و "باسيليدس" و "أبيليس"، ويبدو أن "الأوفيتيين" حسب "أوريجانوس" هم فرع من طائفة لم يذكر إسمها كان قد وصفها قبله "إيرينيئوس".

وأعطى "أوريجانوس" كذلك وصفا "للرسم التوضيحي الأوفيتي" الذي وافق وصف "سيلسوس"، ويتألف من دائرة خارجية تسمى "لوياثان" دلالة على روح كل شيء، مع عشر دوائر داخلية ملونة بشكل مختلف، هذا الرسم يحتوي أيضا على ملامح وأسماء الشياطين السبعة. العديدون حاولوا إعادة صنع هذه الملامح من خلال وصف "أوريجانوس"، لكن في الحقيقة لم يعط "أوريجانوس" أية تفاصيل كافية حتى يصير الأمر ممكنا أو قابلا للمساعدة في فهم ما الذي كان مقصودا من خلال استعراضها، لقد سمى "أوريجانوس" "الفرات" كمقدم لعقيدة الطائفة التي يصفها، وربما كانت تلك الطائفة فرعا من "الأوفيتيين" يدعى "البيراتيين".

وفي كتابه المعنون بـ "باناريون" الذي يعتبر من الكتب المسيحية المبكرة التي تخصصت في البدع الغنوصية، يقول الأسقف "إبيفانيوس السلاميسي": "إن لديهم أفعى يحفظونها في صندوق ـ السيستا ميستيكا ـ وفي ساعة طقوسهم يخرجونها من مخبئها، إنهم يكدسون الأرغفة على الطاولة ويستدعون الأفعى، وعندما ينفتح المخبأ تخرج، إنها وحش ماكر وتعرف طرقهم السخيفة، تزحف على الطاولة وتلتف حول الأرغفة، فيقولون إنه قربان كامل، هنا وكما قيل لي، إنهم لا يكسرون الأرغفة التي التفت حولها الحية وصفّتها للحاضرين فحسب، لكن كل واحد منهم يقبلها في فمها، لأن الحية روضت بواسطة تعويذة، أو صارت لطيفة عن طريق أساليب شيطانية أخرى، فيخرون أمامها ويسمون هذا "سر التناول"، ومن خلال ذلك ـ كما يقولون ـ يرسلون ترنيمة إلى الأب الأعلى، وبذلك يختتمون أسرارهم".

ويبقى مرجحا أن تلقين نظام "الأوفيت" كان قد بدأ يختفي في أيام "هيبوليتوس"، وفي وقت "إبيفانيوس" كان قد اختفى هذا النظام تماما، لكن ما استعرضناه في كتابه أعلاه يوحي بأن هذا النظام لم يكن سوى عقيدة غريبة لقلة من الزنادقة الضالين هنا وهناك، وفي القرن الخامس الميلادي يخبرنا الأسقف "ثيودوريطس" في كتابه عن البدع أنه كانت توجد طائفة تمارس عبادة الحية في أبرشيته، وسمى أعضاء هذه الطائفة "بالمارقونيين" واعتقد أنهم يتبنون نظام "الأوفيت" فعلا.

وفي النصوص الغنوصية "لنجع حماد" التي تشير إلى الأفعى يبدو أنها ارتبطت بصيغة الكنيسة المبكرة "للأوفيتيين"، وهذه النصوص كانت ثلاثة هي: "أقانيم الأرخونات" و "في أصل العالم" و "أبوكريفا يوحنا"، وإذا تتبعنا أنماط المحاكاة المعاصرة لطائفة "الأوفيتيين" سيقودنا ذلك إلى الطائفة المسماة "سيدتنا من اجتماع إندور" التي أسست سنة 1948 على يد "هربرت آرثر سلون" والتي تأثرت بشدة بتعاليم "الأوفيتيين" القدماء.
المرجع:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ثقافة بازيريك

هي ثقافة تنتمي إلى الحضارة السكيثية البدوية التي تنتمي إلى العصر الحديدي الممتد من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تم التعرف ...