الخميس، 20 يونيو 2019

مقدمة عن ديستوبيا القرن الواحد والعشرين


شخصيا لقد أبهرتني هذه المقدمة من الموقع الإلكتروني "لمجلة معابر" وسأنقلها حرفيا في مدونتي هذه للذكرى:
"إن تفاقم الأزمة الشاملة التي تجتازها الإنسانية اليوم لهو أمر لم يعد بحاجة إلى برهان ولا ينكره إلا كل متقوقع على نفسه في عالم وهمي من صنعه هو، لا يريد أن ينغِّص عليه هذا الوهم منغِّص. وهذه الأزمة التي ستطال الجميع، عاجلاً أم آجلاً، ناجمة مباشرة عن أنموذج paradigm فكري ونفسي ساد على التيار "الرسمي" للثقافة الإنسانية بضع مئات من السنين. يقوم هذا الأنموذج على عدد من المفاهيم والقيم السائدة، من أهمِّها اختزال الكون إلى منظومة ميكانيكية مكوَّنة من لبنات بناء أولية؛ والنظر إلى الأجسام الحيَّة كآلات؛ واعتبار العلم الوضعي التحليلي التخصصي الطريق الأوحد إلى المعرفة، واعتبار كل ما عداه من خبرات ثقافية وروحية من قبيل الترف الفكري؛ والنظر إلى الحياة في المجتمع كصراع تنافسي من أجل البقاء؛ والمراهنة بكل شيء على التقدم المادي غير المحدود الواجب إحرازه عبر النمو الاقتصادي والتكنولوجي؛ وأخيراً، وليس آخراً، الاعتقاد بأن المجتمع الذي يضع الأنثى في منزلة دون منزلة الذكر هو مجتمع يمتثل لقانون طبيعي إلهي.

لقد بلغ الإنسان المعاصر من تطوره الفردي والاجتماعي شوطاً يقتضينا أن ننمي فينا نظرة منظومية systemic أوسع نستطيع من خلالها أن نبصر الكل حتى نفهم الأجزاء (أنظر: فريتيوف كابرا، "معايير التفكير المنظومي"، الإصدار 1). إن الأزمة الراهنة ناجمة عن كون غالبيتنا الساحقة – وخصوصاً مؤسَّساتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية – ما تزال تقرُّ وتعمل بمفاهيم وقيم الأنموذج القديم التي لم تعد قطعاً تصلح للتعامل مع قضايا عالمنا المكتظ سكانياً والعالمي الترابط والكلِّي التشابك. لقد أمسى اتخاذ القرار في المؤسسات المذكورة عملية منطقية محض خطِّية linear، خاضعة في أغلب الأحيان لاعتبارات المنفعة القريبة المدى ولمتطلبات الاستهلاك الآنية. لم تعد القيم الإنسانية اعتباراً يؤخذ بالحسبان كمقياس لصواب التفكير والعمل، وكشرط لازم وكافٍ لتحقيق إنسانيتنا، ولم تعد طرفاً في المعادلة إلا بمقدار ما يتم توظيفها توظيفاً مشوَّهاً – ومشوِّهاً – يخدم مآرب فئة متنفِّذة همُّها المزيد من الربح والسيطرة. إننا، في تحليلنا للأمور، قلما نأخذ ديناميَّة الحياة بعين الاعتبار، ضاربين كشحاً عن قدرتها المتجددة على الانتظام والتوازن الذاتيين، إنْ على صعيد الطبيعة النازفة، أو على صعيد الإنسان المختل التوازن، فرداً وجماعة. فلا عجب أننا نعيش اليوم في مجتمع تسوده الفوضى والهلع واللامبالاة وانعدام المسؤولية (أنظر: موسى د. الخوري، "التوازن النفسي والتوازن البيئي"، الإصدار 3).

إن الخطوة الأولى في التخفيف من حدة الأزمة هي الإقرار بأن الانقلاب الثقافي العميق المطلوب تحقيقه للتغلب عليها قد بدأ يتحقق فعلاً. إذ لقد بدأ باحثون على التخوم المتقدمة للعلم، وشبكات معرفية بديلة، وحركات اجتماعية متنوعة، تستلهم الحكمة القديمة وتتلقى تأييدها، بتطوير رؤية جديدة للواقع ستصبح قاعدة للعمل الإنساني في سبيل التحول التدريجي نحو أنموذج جديد، ينطوي على مفاهيم وقيم جديدة. وهذا الانقلاب هو ثمرة خبرة روحية عميقة تُترجَم عملياً إلى نقلة نوعية في الوعي وفي النظرة إلى العالم: نقلة من رؤية آلتية machanistic للواقع، محدودة الأفق، إلى رؤية كلانية holistic وإيكولوجية ecological الآفاق، تبيَّن أن المفاهيم والقيم التي تتبناها هي عينها المفاهيم والقيم التي توصلت إليها الحكمة الإنسانية المعبِّرة عن النضج النفسي والروحي للإنسان العاقل فيما يتعدى الزمان والمكان.

تتلخص هذه المفاهيم في التحول عن العقلانية المفرطة إلى الحدس والكشف، عن التحليل إلى التركيب، عن الاختزال إلى التكامل، عن التفكير الخطِّي إلى التفكير "اللولبي"، عن الإمعان في التخصص إلى العبرمناهجية transdisciplinarity (أنظر: بسراب نيكولسكو، "مستويات التعقيد ومستويات الواقع"، الإصدار 1)، وعن مراكمة المعلومات إلى المعرفة كوظيفة وجودية (ليس القصد استبدال مفهوم جديد بمفهوم قديم، بقدر ما هو التحول عن التشديد المفرط على أحد المفهومين إلى توازن أعظم بينهما).

أما على صعيد القيم، فهناك تحول ملحوظ عن التوسع والاستغلال إلى الصيانة والتكافل، عن الكم إلى النوع، عن الفردية المنتفخة واللامبالاة غير المسؤولة إلى الغيرية السمحاء والمسؤولية الواعية، عن الصراع والتنافس والاستئثار إلى التعاون والمشاركة والإيثار، وعن التعالي على الآخر والسيطرة عليه إلى احترام الآخر باحترام حقه المطلق في الحياة والحرية والتفتح على إيقاعه الخاص، عن فرض النمط الثقافي الواحد إلى الاغتناء بالتنوع كشرط لا بدَّ منه للتطور، عن الجمود الفكري والتعصب والظلامية إلى الديناميَّة الفكرية وانفتاح القلب والوعي الكوني".
المرجع: مجلة معابر:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ثقافة بازيريك

هي ثقافة تنتمي إلى الحضارة السكيثية البدوية التي تنتمي إلى العصر الحديدي الممتد من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تم التعرف ...