الجمعة، 27 يناير 2023

فصل البيان في علاقة الإنس بالجان

الجن كمصطلح هو كل ما جن أو اختفى من كائنات حية أو تعذر إدراك كياناتها الحقيقية بالحواس الإنسانية، وينقسم الجن في العموم إلى عدة أقسام ودرجات منها العفاريت، فالعفريت هو كل جن متعفرت؛ أي طاغ وفيه تمرد، أما الشيطان فهو في جنسه جني لكنه كافر، وجنس الجن خلق من مارج من نار السموم. ويزعم الروحانيون أنهم يتعاملون في الأعمال التي يصنعون مع الملائكة، ونحن كثيرا ما نقف على وصفهم للجن بالملائكة في كتاباتهم ومقالاتهم كما هو الشأن في كتاب شمس المعارف لصاحبه البوني مثلا، لكنهم في الواقع يتعاملون مع الجن، فالملائكة لا تتنزل إلا بأمر الله لا بأمر البشر ولا تتنزل إلا على الذين "قالوا ربنا الله ثم استقاموا" كما ورد في القرآن الكريم، ويوم القيامة حين يحشر الله الخلائق جميعا يسأل الملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ فيقولون: "سبحانك، أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن، أكثرهم بهم مؤمنون". وقد بدأت حكاية الإنس والجن منذ بدء الخليقة، والله عز وجل خلق آدم للأرض لا للجنة رغم أنه أسكنه إياها في بادئ الأمر، وذلك ليدبر ملحمة الصراع والنزال الأزلي بين الثقلين، لأنه بدون ذلك لا تكون رسالة على وجه الأرض كما أراد الله لها أن تكون، وقد اعترضت الملائكة في البدء على خلق الله لآدم لأنه أطلعها على شيء من الغيب ورأت أن نسله سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء،  ووجه ذلك أن هناك غيبان: غيب أكبر وغيب أصغر، قال تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول"، وكما في البشر رسل يوجد في الملائكة رسل كذلك، قال تعالى في محكم تنزيله: "جاعل الملائكة رسلا، أولي أجنحة مثنى وثلاثا ورباع". وهكذا؛ لم يسبق الجن الإنس على وجه الأرض كما يزعم بعض المفسرين القدامى، ويعضد هذا الرأي الحديث النبوي الشريف: "خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبت فيها من الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر يوم الجمعة". وعندما خلق الله آدم أمر الملائكة وإبليس بالسجود فسجدت الملائكة وامتنع إبليس لقصور فكره، فكما هو معروف عقل الجن محدود لا يعدو عقل صبي من الإنس، وهذا ما جعل الرسالة مفصلة للإنس وليس للجن، وقد علل إبليس عصيانه بالقول: "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"، وأتى إبليس بهذا القياس المعيب  لأن النار تتقدم العناصر الأربع لكونها الأخف ثم يليها في الخفة الهواء ثم الماء فالتراب. لكن إبليس قاس المحل على المحل ونسي الساكن، فجسد التراب فاق جسد النار لتضمنه للروح؛ قال تعالى: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين". فالتسوية هنا تخص النفس لا البدن: "ونفس وما سواها"، والروح المودعة بين جنبي الإنسان هي عنصر شريف لادني رباني غير مخلوقة ولا معنية بالحساب والجزاء ولا بشيء من التكليف لأنها من الله. وهكذا أدخل الله آدم وحواء الجنة ودخل معهما إبليس بمشيئته، وأنعم الله على الزوجين بأن جعل كل ثمار شجر الجنة طعاما سائغا لهما لكنه نهاهما عن ثمار الشجرة المحرمة، فأغواهما إبليس للأكل من تلك الثمار زاعما أنهما بذلك سيصيران ملكين أو يكونا من الخالدين؛ ونسيا أمر الله وصدقا دعوة إبليس إذ كان معهما في الجنة فأتمناه ولم تكن لديهما طفولة يلقيان فيها الرعاية والتوجيه فكانا على الفطرة، وبعد أن قاسمهما إبليس بالنصح لم يجدا بدا من تنفيذ نصيحته ولم يعرفا من قبل أن أحدا قد يحلف بالله كذبا، فأكلا من الشجرة، والواقع أن إبليس من إحدى الوجوه لم يكذبهما القول؛ فقد كتب عليها الخلود بأكلهما من الشجرة لأن الجنة الأولى لا خلود فيها إنما الخلود يكون بعد الموت فإما إلى نعيم أو إلى جحيم، ثم غفر الله لآدم وحواء خطيأتهما وأنزلهما الأرض ومعهما إبليس، وبما أنه لا يتصور أن يكون لإبليس ذرية من دون أنثى فالراجح أنه هبط هو وزوجه الأرض لينطلق بذلك الصراع الأزلي بين الإنسان والشيطان. فاتجه كل إلى أرضه؛ الإنس إلى أرضهم والجن إلى أرضهم، ومعلوم أن الله عز وجل خلق سبع أراضين كما بين في محكم تنزيله: "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن". يقول أبو الفتح الجعفي في تائيته:

فأنت بأرض في وجودك أول *** وأنت بأرض في اصطناع وكلفة.

ولا تنس أرض الجن فيها معاشهم *** وللأوليا أرض إذا ما ترقت.

وأرض بدت بيضاء كانت لمحشر *** وبرزخ أموات بأرض قريبة.

وأرض خليل الله هبها لصبية *** رعاهم خليل الله فيها برأفة.

وهكذا هذه الأراضين حسب قول الجعفي هي: ١) أرض الوجود الأول. ٢) أرض الوجود الأدنى. ٣) أرض الجن. ٤) أرض الأولياء الصالحين. ٥) أرض المحشر. ٦) أرض البرزخ. ٧) أرض صبية المؤمنين الموتى. ولكل أرض علامات تدل عليها: فأرض الوجود الأول مثلا كثيرا ما ترى في المنام ومن علاماتها أن لا شمس فيها وفيزياؤها تختلف تماما عن الأرض الدنيا إلا أن ما يقع عليها ينعكس على الأرض الدنيا كانعكاس الوجه على صفحة المياه. أما أرض المحشر فهي بيضاء عفراء كقرصة نقي كما ورد في الحديث الشريف، بينما أرض سيدنا إبراهيم  عبارة عن جبل في الجنة يكفل فيه إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين الموتى حتى يردون إلى آبائهم يوم القيامة كما جاء في الحديث. وهذه الأراضين كلها مجتمعة في أرض واحدة لكنها تقع في أبعاد مختلفة، ودليل ذلك قوله عز من قائل: "يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات"، وقال: "وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات والأرض". ويتحرك الجن بين أرضهم وأرض الإنس بسلاسة لخفة خلقهم بينما الإنس لا يستطيعون فعل ذلك بنفس الطريقة، كما يستطيع الجن رؤية الإنس دون حواجز بينما لا يقدر الإنس على ذلك في كل وقت، وتقدر شياطين الجن على الوسوسة للناس جميعا في وقت واحد، ويمكن للجن أن  يذرعوا الأرض طولا وعرضا في لمح البصر. غير أن الإنسي يبقى أقوى من الجني بشيء واحد هو أن الله ميزه بالروح التي تسري في جسده إلا من حقر نفسه وخضع لسلطان الجن بملء إرادته، قال تعالى: "إن كيد الشيطان كان ضعيفا"، وقال: "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم  وخافوني إن كنتم مومنين". ومعلوم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق متى هان وضعف، لكن الله تعالى قال: "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله". وهذا هو السلاح الجبار الذي يطرد شياطين الجن بعيدا، وجدير بالذكر أن لا سبيل للجن على عباد الله المخلصين. وهؤلاء هم "عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما".

وهناك صنف من الجن يعيش بين ظهراني الناس وليس في أرضهم، وهم عمار المكان؛ إذ يعيشون بيننا كالقطط في بيوتنا، قال (ص) "إن لبيوتكم عمارا فحرجوا عليهن ثلاثا فإن بدا لكم بعد ذلك منهن شيئا فاقتلوهن". وهؤلاء العمار يتطبعون بطبع الإنس ويتكلمون بلهجاتهم ويتبعون عاداتهم في كل شيء. وهناك طائفة من الجن هربوا من حكامهم إلى عالم الإنس وأغلبهم فاسق مؤذي لا سبيل للخلاص من شره إلا بتحكيم ملكه في رقبته. وهناك تداخل وتماس بين أرض الجن وأرض الإنس، وهذا التداخل قد يتسبب فيه الأشخاص بقصد أو بغير قصد أو عن طريق أحداث أو ظروف معينة؛ فقد تفتح الفجوات بين الأرضين فيصل الجن إلى الإنس بسهولة لعدة أسباب اهمها: شدة التفكير في الجن وذكره المصحوب بالخوف والوسوسة؛ فكأنك تجذبه إليك فيصير الحجاب الفاصل بينكما رفيعا ثم يتمزق فينفذ الجن إلى ذاتك ويستعمرها وقد يبطل بعض أعضائها، ثم طول الوحدة في البيت أو الإسراء في الليل وحيدا، لذا نهى الرسول (ص) أن يبيت الرجل في البيت وحده أو أن يسير وحده في الليل، ثم الاختلاء وترداد العزائم المصحوب بالتفكير والتركيز من الروحانيين والمشعوذين والعرافات، فلا تستحضرهم العزيمة بقدر ما يستحضرهم التفكير كما جاء في السبب الأول. هذا بالنسبة للأسباب التي ترجع للأشخاص، أما الأسباب الراجعة للظروف والحوادث فمنها المواضع التي تراق فيها الدماء كالمسالخ ومحلات الجزارة (القصابة) وسواها لأن الجن يحب الدم لذا كثيرا ما تفتح المنافذ إلى أرض الجن من هذه المواضع ليلا، وكذا مواضع النصب والمذابح التي تقدم فيها الذبائح والقرابين لغير الله من قبيل المغارات والأضرحة والمزارات، ثم المكان الذي يقتل فيه شخص ظلما دون أن يقتص من قاتله حيث تمكث نفسه هناك هائمة أما روحه فتعود إلى الله، وهناك يتكون منفذ إلى عالم الجن، إضافة إلى الأماكن التي يعمل فيها السحر بكل أنواعه فيحدث أن يتعرض ذلك المكان للرجم ليلا مثلا أو توقد فيه النيران تلقائيا وهذا دليل كاف على وجود منفذ إلى عالم الجن هناك.

المرجع:

https://youtube.com/@alyaassoub5639

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ثقافة بازيريك

هي ثقافة تنتمي إلى الحضارة السكيثية البدوية التي تنتمي إلى العصر الحديدي الممتد من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تم التعرف ...