خشيب ألماني عن المستذئب يعود لسنة 1722، وكان "ثياس" قد ادعى أنه مستذئب، على الرغم من أنه أكد أن في استذئابه خدمة للرب لا للشيطان، على عكس المعتقدات الشائعة عن المستذئبين في ذلك الوقت. |
"ثياس من كالتينبرون" أو المعروف أكثر بلقب "المستذئب الليفوني"، كان رجلا من "ليفونيا" حوكم بالهرطقة في "يورغنبورغ" الواقعة في "ليفونيا السويدية" سنة 1692، وفي ذلك الوقت من ثمانينياته، كان "ثياس" قد أعلن نفسه مستذئبا بشكل صريح، وادعى أنه قام بمغامرات في الجحيم مع مستذئبين آخرين لا يقلون عنه ضراوة في سبيل خوض معركة ضد الشيطان وساحراته، وعلى الرغم من زعمه بأنه "مستذئب" فقد لقب نفسه كذلك "كلب الرب"، إلا أن القضاة اعتبروه مذنبا بمحاولته إبعاد الناس عن المسيحية فحكم عليه بالجلد وبالنفي مدى الحياة.
ووفقا لقصة "ثياس"، كان هو وباقي المستذئبين يتحولون إلى هيئة "الذئب" ثلاثة ليال في السنة، وعند تحولهم يسافرون أسفل إلى الجحيم، وحالما يصلون إلى هناك، يقاتلون الشيطان وساحراته لينقذوا الحبوب والماشية التي كانت الساحرات تسرقها من الأرض.
وقد استرعت قصة "ثياس" اهتمام مختلف المؤرخين المعاصرين وفسروا معتقداته عن الاستذئاب بطرق مختلفة، ففي كتابه "معارك الليل" (الصادر سنة 1966) قارن المؤرخ الإيطالي "كارلو غينسبورغ" ممارسات "ثياس" مع ممارسات "البناندانتي" في شمال شرق إيطاليا، وخلص إلى أن هذه الممارسات لم تكن سوى ترسبات من المعتقدات الشامانية السابقة للمسيحية، غير أنه في وقت لاحق، انتقد المؤرخ الهولندي "ويليم دي بليكورت" فكرة "غينسبورغ" هذه.
وكانت قصة "ثياس" قد بدأت سنة 1691، عندما مثل أمام قضاة "يورغنبورغ"، وهي قرية في "ليفونيا السويدية"، وكان طبيبا ثمانينيا معروفا باسم "ثياس من كالتينبرون"، واعتقد القضاة في البداية أنه حضر لغرض الشهادة في شأن قضية تتعلق بسرقة كنيسة، وكانوا على دراية بأن السكان المحليين يعتبرونه مستذئبا اقترن بالشيطان، لكنهم في البداية لم يهتموا كثيرا بمثل هذه الادعاءات التي لم تكن لها علاقة بالقضية المطروحة أمامهم، إلا أن "ثياس" اعترف من تلقاء نفسه للقضاة بأنه كان ذات يوم مستذئبا، لكنه ادعى أنه توقف عن ذلك منذ عشر سنوات، ثم شرع "ثياس" في سرد تقريره عن "اللاكتريا السريرية" التي تختلف اختلافا كبيرا عن النظرة التقليدية للمستذئب التي كانت سائدة في شمال ألمانيا ودول البلطيق.
وأخبر "ثياس" القضاة أيضا كيف أنه قبل عشر سنوات في عام 1681 مثل أمام المحكمة نفسها عندما اتهم مزارعا من "ليمبورغ" بكسر أنفه. ووفقا للقصة التي روى بعد ذلك، كان قد سافر إلى الجحيم في هيأة ذئب، حيث ألفى المزارع هناك والذي لم يكن سوى ساحرة شيطانية متنكرة، وضربه هذه المرة على أنفه بعصا مزينة بذيول الخيل، وقد رفض القضاة في ذلك الوقت تصديق حكاية "ثياس" وضحكوا عليها خارج المحكمة، لكن أحد هؤلاء القضاة كان قد تحقق من أن أنف "ثياس" كان مكسورا بالفعل.
وقرر قضاة "يورغنبورغ" هذه المرة أن يأخذوا ادعاءات "ثياس" على محمل الجد، وحاولوا إثبات ما إذا كان مجنونا أو عاقلا، فسألوا العديد من الأفراد في المحكمة الذين كانوا على معرفة "بثياس" عن سلامته العقلية، إلا أن إجابتهم كانت أن هذا الأخير ـ بقدر ما عرفوا عنه ـ لم يغب عنه الحس السليم أبدا، كما أشاروا إلى أن اعتبار "ثياس" في المجتمع المحلي قد زاد بالفعل منذ واقعة 1681.
كما زعم "ثياس" أنه في ليلة عيد "القديسة لوسي" وعادة في ليالي عيد العنصرة وعيد "القديس يوحنا" كان هو والمستذئبون الآخرون يتحولون من هيآتهم الآدمية إلى ذئاب، وعندما سئل "ثياس" عن كيفية حدوث ذلك، ادعى في البداية أنهم فعلوا ذلك عن طريق ارتداء فراء الذئاب التي حصل عليها في الأصل من ذلك المزارع، وعندما طلب منه القضاة تحديد هوية هؤلاء الأفراد المستذئبين، قام "ثياس" بتغيير قصته، وادعى أنه هو وهؤلاء المستذئبين كانوا يتوجهون ببساطة إلى الأدغال، ويخلعون ملابسهم ثم يتحولون إلى ذئاب، وبعد ذلك أشار "ثياس" إلى أنه هو وباقي المستذئبين كانوا يتجولون في المزارع المحلية ويمزقون أيا من حيوانات المزارع التي يصادفونها قبل تحميص لحومها والتهامها، وعندما استفسر القضاة عن كيفية قيام الذئاب بتناول اللحوم المشوية، أخبرهم "ثياس" أنه في هذه المرحلة يكونون في قالب آدمي وأنهم يفضلون إضافة الملح إلى طعامهم لكن دون أن يحصلوا على الخبز.
تصوير لمستذئب يفترس طفلا للفنان الألماني "لوكاس كراناخ الأكبر" سنة 1512. |
وأخبر "ثياس" القضاة أيضا كيف أصبح ذئبا في البداية موضحا في السابق أنه كان متسولا، وأنه ذات يوم جرعه أحد العفاريت نخبا له، مما منحه القدرة على التحول إلى ذئب، وعلاوة على ذلك أشار إلى أنه في وسعه أن ينقل قدرته إلى شخص آخر عن طريق تجريعه والتنفس في الإبريق الذي جرعه منه ثلاث مرات وإعلانه أمامه "سوف تصبح مثلي"، فإذا أخذ هذا الشخص الإبريق يصبح مستذئبا، لكن "ثياس" زعم أنه لم يعثر بعد على أي شخص مستعد لتولي دور المستذئب منه.
كما تحدث "ثياس" عن رحلة الذئاب إلى مكان يقع "وراء البحر"، وكانت هذه البقعة مستنقعا يقع بالقرب من "ليمبورغ" على بعد حوالي نصف ميل من مقر رئيس المحكمة، ومن هناك كانوا يدخلون إلى الجحيم حيث يشتبكون مع كل من الشيطان والساحرات الخبيثات المواليات له، ويضربونهم بقضبان حديدية طويلة ويطاردونهم مثل الكلاب، إضافة إلى ذلك، أخبر "ثياس" القضاة أن المستذئبين "لا يمكن أن يتسامحوا مع الشيطان" وأنهم بمثابة "كلاب الرب".
وكان قضاة "يورغنبورغ" مرتبكين وسألوا "ثياس" عن سبب سفر المستذئبين إلى الجحيم ماداموا يكنون الكره للشيطان، وقد أجابهم "ثياس" بأنه كان على إخوته أن يذهبوا في رحلتهم لإعادة الماشية والحبوب وثمار الأرض التي سرقتها الساحرات، فإذا فشلوا في مهمتهم هذه فإن حصاد عامهم ذاك سيكون سيئا، كما أخبرهم "ثياس" كيف سافر في العام السابق إلى الجحيم كمستذئب، وأنه تمكن من حمل الكثير من الشعير والشوفان والشيلم قدر استطاعته للعودة إلى الأرض من أجل ضمان الحصاد الوفير، وهنا لاحظ القضاة وجود تضارب في ادعاءات "ثياس" حيث كان قد أكد في وقت سابق من المحاكمة أنه تخلى عن حياته كمستذئب منذ عشر سنوات، لكنه اعترف هنا بأنه سافر إلى الجحيم كمستذئب في العام السابق، وتحت التحقيق اعترف "ثياس" أنه كذب في ادعائه السابق.
ثم سأل قضاة "يورغنبورغ" "ثياس" عن مآل أرواح المستذئبين عند وفاتهم، فأجاب أنهم سيذهبون إلى الجنة، في حين أن أرواح الساحرات سوف تذهب إلى الجحيم، ثم تساءل القضاة عن ذلك، وسألوا كيف من الممكن لأرواح المستذئبين أن تذهب إلى الجنة وهم خدام للشياطين، فكرر "ثياس" مرة أخرى، وأكد أن المستذئبين لم يكونوا خداما للشياطين بل خدما للرب، وأنهم قاموا برحلات ليلية إلى الجحيم من أجل خير البشرية.
وبعد الاستماع إلى روايته عن رحلاته الليلية إلى الجحيم، شعر القضاة بالقلق إزاء ما إذا كان "ثياس" من اللوثريين المتدينين أم لا، وسألوه عما إذا كان يحضر الكنيسة بانتظام ويستمع إلى كلمة الرب، وما إذا كان يصلي بانتظام ويشارك في العشاء الرباني، فأجاب "ثياس" أنه لم يفعل أيا من هذه الأشياء مدعيا أنه كان أسن من أن يفهمهم.
وقد تبين لاحقا أنه بالإضافة إلى رحلاته الليلية، كان "ثياس" ممارسا للسحر الشعبي لأفراد المجتمع المحلي، حيث كان بمثابة معالج وساحر، وكان معروفا أنه يبارك الحبوب والخيول، كما كان يعرف السحر المصمم لدرء الذئاب وإيقاف النزيف، وتضمنت إحدى ممارساته السحرية هذه مزج الملح المبارك بالجعة الدافئة أثناء قراءة كلمات "الشمس والقمر يذهبان إلى البحر ويعيدان الروح التي أخذ الشيطان إلى الجحيم ويعيدان للماشية الحياة والصحة التي أخذت منها" وذلك في أي مكان لم يستحضر السحر أو يذكر قوة الرب فيه، وبالنسبة للقضاة، كانت هذه البركة تعتبر إجرامية لأنها كانت تشجع زبناء "ثياس" على الابتعاد عن المسيحية ولذا حكموا على "ثياس" بالجلد والنفي مدى الحياة.
وبمناسبة مناقشة هذه القصة من قبل العلماء المعاصرين، كان النقاش العلمي في البداية حول مسألة المستذئب الليفوني مقتصرا على الباحثين في العالم الناطق بالألمانية، ولم يكن قد برز بعد في وجهات النظر العامة باللغة الإنجليزية حول معتقدات المستذئبين الأوروبيين مثل "مونتاج سامرز" في كتابه "المستذئب" لسنة 1933، ووفقا للمؤرخ الهولندي "ويليم دي بليكورت" فقد تم لفت انتباه عالم الأنثروبولوجيا الألماني "هانز بيتر دوير" (1943-) إلى قضية "ثياس" لأول مرة في كتابه "وقت الحلم: فيما يتعلق بالحدود بين البرية والحضارة" (صدر سنة 1978 وترجم إلى الإنجليزية سنة 1985)، حيث ناقش "دوير" باختصار المستذئب الليفوني في فصل بعنوان "النساء البريات والمستذئبون" والذي تعامل فيه مع مختلف التقاليد الشعبية الأوروبية التي كسر فيها الأفراد المحرمات الاجتماعية وتسببوا في الأذى للرأي العام بحجة أنهم كانوا يمثلون معركة بين قوى الفوضى والنظام.
وكان المؤرخ الإيطالي "كارلو غينسبورغ" (1939-) كما تقدم قد ناقش حالة المستذئب الليفوني في كتابه "المعارك الليلية: السحر والطوائف الزراعية في القرنين السادس عشر والسابع عشر" (صدر سنة 1966 وترجم إلى الإنجليزية سنة 1983) وخصص كتابه هذا في المقام الأول لدارسة التقليد الشعبي لجماعة "البناندانتي" من منطقة "فريولي" شمال شرق إيطاليا، حيث كان الفريوليون المحليون يسقطون في حالات الانتشاء معتقدين أن أرواحهم كانت تترك أجسادهم لمحاربة الساحرات الخبيثات من أجل حماية المحاصيل وتوقي المجاعة، واعتقد "غينسبورغ" في كتابه أن هناك قواسم مشتركة أكيدة بين "البناندانتي" وحالة "ثياس" مشيرا إلى أن كلاهما خاض معارك عن طريق توجيه الضربات بالعصي في ليال معينة لضمان خصوبة الحقول.
ومن وجهة نظر "غينسبورغ"، كان كل من تقاليد "البناندانتي" وتقاليد "ثياس" عن المستذئبين يمثلان بقايا المعتقدات الشامانية التي نجت من التنصير كما سبق ذكره.
وفي بحثه لعام 1992 عن حياة وأعمال "غينسبورغ" عبر المؤرخ من جامعة "ترينتي" في "سان أنطونيو"، "تكساس"، "جون مارتن" عن دعمه لفرضية "غينسبورغ" مدعيا أن دور "ثياس" كان مطابقا تقريبا لدور "البناندانتي"، وفي سياق داعم مماثل، أشارت المؤرخة الهنغارية "إيفا بوكس" إلى وجود "سحرة مستذئبين" كانوا منحازين للسحرة الأوروبيين الشامانيين في بحث لها عن "تالتوس الهنغاري".
وكان الأكاديميون الآخرون أكثر حذرا من "غينسبورغ" في المساواة المباشرة للمستذئب الليفوني بالشامانية، وأشار مثلا المؤرخ الهولندي "ويليم دي بليكورت" إلى أن العالم الألماني "هانز بيتر دوير" امتنع في كتابه "وقت الحلم" عن إقامة صلة واضحة بين الشامانات والمستذئبين على الرغم من أنه اعترف بأوجه التشابه بين "البناندانتي" و "ثياس".
المرجع:
https://en.wikipedia.org/wiki/Thiess_of_Kaltenbrun#Blé07
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق