الجمعة، 18 أكتوبر 2019

حضارة نازكا

شخصية دميوية أنثوية من "نازكا" مصنوعة من سن حوت العنبر.


كانت حضارة "نازكا" ( تنطق أيضا "ناسكا") حضارة أثرية ازدهرت بين 100 ق.م و 800 م في الساحل الجنوبي القاحل "لبيرو" ضمن نطاق الأودية النهرية "لريو غراندي دي نازكا" ووادي "إيكا". وكانت هذه الحضارة متأثرة بشدة بحضارة "باراكاس" السابقة لها والتي كانت معروفة بمنسوجاتها المعقدة للغاية، وقد أنتجت حضارة "نازكا" مجموعة من الأدوات الحرفية اليدوية إضافة إلى تقنيات السيراميك والمنسوجات والجيوغليفات ـ المعروفة بخطوط "نازكا" ـ كما قام شعب "نازكا" ببناء نظام مثير للإعجاب لقنوات المياه الجوفية معروف باسم "بوكيوس Puquios" والذي لايزال يعمل حتى يومنا هذا، وقد تم إطلاق تسمية مقاطعة "نازكا" تيمنا بهذا الشعب. 
موقع نفوذ وتأثير حضارة "نازكا".


وتطور مجتمع "نازكا" خلال الفترة الوسيطة المبكرة وانقسم تاريخه عموما إلى عصر "ما قبل نازكا" (من 100 ق.م إلى 1 م) و "نازكا القديمة" (من 1 إلى 450 م) و "نازكا الوسطى" (من 450 إلى 550 م) ثم "نازكا المتأخرة" (من 550 إلى 750 م). 

وقد بدأت حضارة "نازكا" في الانحطاط منذ 500 م لتنهار تماما بحلول 750 م، ويعتقد أن هذا حدث عندما تسببت ظاهرة "النينيو" في فيضانات واسعة النطاق ومدمرة، وتشير الدلائل أيضا إلى أن سكان "نازكا" ربما يكونوا قد فاقموا من خطورة تلك الفيضانات من خلال القطع التدريجي للأشجار لإفساح المجال لزراعة الذرة والقطن، وكانت هذه الأشجار تلعب دورا هاما باعتبارها حجر الزاوية البيئي في تلك المنطقة خاصة فيما يتعلق بمنع التآكل الناتج عن الأنهار والرياح، وكان من شأن الإزالة التدريجية للأشجار تعريض المنطقة لآثار الاضطرابات المناخية مثل ظاهرة "النينيو". 

وكان مجتمع "نازكا" المبكر مؤلفا من المشيخات المحلية إضافة إلى المركز الإقليمي للسلطة الذي تمحور حول "كاهاواتشي" والذي كان عبارة عن موقع احتفالي غير حضري يتموقع في التلال، وتمكن العلماء من تطوير نظريات بناء على الحفريات المختلفة في "كاهاواتشي" مفادها أن الموقع كان مركزا للطقوس والولائم المتعلقة بالزراعة والمياه والخصوبة، وقد كان للتدهور البيئي يد في انهيار هذا المركز الذي يقع في الجزء السفلي من وادي "نازكا" والذي كان آهلا منذ مرحلة "باراكاس" المتأخرة، ويعتبر هذا المركز فريدا بين جميع مواقع "نازكا" الأخرى وهو الموقع الأكثر أهمية لدراسة ثقافة "نازكا" القديمة حيث حول الناس التلال الطبيعية إلى تلال هرمية لأغراض احتفالية ودينية. 

وقد أعطت الحفريات في "كاهاواتشي" العلماء فكرة رئيسية عن الحضارة، وتضمنت بقايا المواد المتواجدة في الموقع كميات كبيرة من الفخار متعدد الألوان والمنسوجات العادية ونظيرتها المبهرة وكميات ضئيلة من الذهب والفقاحات ومجموعة من أدوات الطقوس. ودفعت بقايا الفخار التي عثر عليها في "كاهاواتشي" علماء الآثار إلى الاعتقاد بأن الموقع كان على وجه التحديد غير حضري واحتفالي بشكل طبيعي. ومن بين المواد الغذائية التي عثر عليها هناك كانت الفاصولياء والذرة والقرع إضافة إلى الفول السوداني وبعض الأسماك. 
وعاء رسم عليه السمك من متحف"فيكتوريا وألبرت".

وقد توقف البناء في "كاهاواتشي" ويبدو أنه تم التخلي عن الموقع نهائيا خلال نهاية فترة "نازكا الوسطى" وبداية "نازكا المتأخرة". وعلى الرغم من وجود العديد من الأسباب المحتملة لانهيار "كاهاواتشي"، يعتقد العلماء أن وقف الاستخدام الاحتفالي للموقع ارتبط بشمول الجفاف لمنطقة "الأنديز"، وفي وقت لاحق ـ بعد "كاهاواتشي" ـ تم إعادة بناء مجتمع "نازكا" بطريقة مماثلة لما كان من قبل، ولكن لم يعد التركيز منصبا على بناء المجمعات المعمارية الكبيرة مثل تلك الموجودة في "كاهاواتشي". 

ومن المحتمل أن تكون المعتقدات الدينية "لنازكا" قائمة على الزراعة والخصوبة في انسجام مع الطبيعة القاحلة والمتطرفة للبيئة المحلية. وقد صور جزء كبير من فن "نازكا" آلهة الطبيعة القوية، مثل الحوت الأسطوري القاتل والقط المرقط الأسطوري والمخلوقات الأفعوانية، وكما هو الحال في حضارة "موش" المعاصرة "لنازكا" والتي تمركزت في شمال غرب "بيرو"، استخدم الشامان على ما يبدو الأدوية المهلوسة مثل تلك المستخرجة من صبار "سان بيدرو" للحث على الرؤى ويصور استخدام هذه المواد أيضا في الرسومات الموجودة على فخاريات "نازكا"، وكانت الأحداث الدينية والاحتفالات تقام في "كاهاواتشي" وعبد الناس آلهة الطبيعة للمساعدة في نمو الزراعة. 

وخلال هذه الفترة كان جميع أفراد المجتمع في القرى المجاورة يسافرون إلى المركز ويشاركون في الولائم أيضا، وكان في استطاعة غير النخبة الحصول على سلع ذات قيمة عالية، مثل الفخار متعدد الألوان، وفي المقابل، كان في إمكان النخبة وضع سلطتها السياسية وتعزيزها في الوقت الذي كان يشترك فيه العوام في العمل وبناء الموقع. 
مدافن "نازكا" في مقبرة "تشوتشيلا".

وقد استمر الجدل حول الغرض من الرؤوس البشرية المغنومة في حضارة "نازكا" إلى يومنا هذا، سواء كانت غنائم حرب أو ممارسات طقوسية، وغالبا ما تربط التصويرات المرئية لقطع الرؤوس بين قاطعي الرؤوس والملابس العسكرية التي كان يمكن ارتداؤها في مناسبات احتفالية بحتة كذلك، وصاغ عالم الآثار "ماكس أول" مصطلح "الرؤوس المغنومة" الذي يعتبر تصويرا للرؤوس المقطوعة في الفن البيروفي القديم ليتوافق مع غنائم الحرب. وأشار الباحثون إلى أن جميع تلك الرؤوس المغنومة كانت تحتوي على تعديل مشترك وهو عبارة عن ثقب في الجبهة يمكن من خلاله إدخال حبل لغاية عرض الرأس المقطوعة أو حمله على ما يبدو. 
مدفن لحضارة "نازكا".

والعديد من مدافن أبناء شعب "نازكا" كانت على شكل ما يعرف "بالمدافن الجزئية"، حيث اشتملت هذه المدافن الجزئية على حزم من الأطراف أو مخابئ الرؤوس المقطوعة أو الأجسام التي تفتقد إلى عدة أجزاء، وتم اكتشاف العديد من المدافن التي يكون فيها رأس الهيكل العظمي مفقودا ويتم استبداله بما يشار إليه كثيرا باسم "جرة الرأس"، وهذه الجرة عبارة عن وعاء خزفي طبع عليه رأس بشري إلى جانب الأشجار والنباتات المتفرعة عنه. 

وخلال فترة "نازكا" الوسطى، بدا أن عدد الرؤوس المقطوعة قد زاد بشكل كبير انطلاقا من البقايا المكتشفة، وخلال فترة "نازكا" المتأخرة انخفض عددها على الرغم من أن ممارسة قطع الرؤوس ظلت شعبية، وتشير أيقونوغرافيا "نازكا" المتأخرة إلى أن مكانة قادة مجتمع "نازكا" كانت تتعزز من خلال النجاح في اصطياد هذه الرؤوس. 

واستند اقتصاد شعب "نازكا" بالأساس على الزراعة، وتشير الأيقونات المنقوشة على السيراميك والبقايا المحفورة إلى أن شعب "نازكا" كان لديه نظام غذائي متنوع شمل الذرة والقرع والبطاطا الحلوة والبفرة والقنا وأثر صغير من الأسماك المختلفة، كما استخدموا العديد من المحاصيل غير الغذائية مثل القطن للمنسوجات والكوكا وصبار "سان بيدرو" والقرع الذي كان يزين لوصف الأنشطة اليومية ويمكن إيجاد أدلة الكوكا في المجتمع من خلال رصد البقايا وكذا منقوشات السيراميك، ونفس الشيء ينسحب على صبار "سان بيدرو" المهلوس الذي صور في الاحتفالات على العديد من الأواني، ومن حيث الموارد الحيوانية، كان شعب "نازكا" يقدم تضحيات من حيوانات اللاما وخنازير غينيا في "كاهاواتشي"، كما تم استغلال اللاما بشكل شاسع كحيوانات أحمال ولأجل صوفها وكمصدر للحوم أيضا. 
الحوت القاتل، حضارة "نازكا"، فخار، متحف "لاركو"، "ليما، بيرو".

وتشير الأدلة الأثرية حتى الآن إلى أنه خلال وقت ما من فترة "نازكا" المتوسطة أنشأ شعب "نازكا" نظام قنوات ري للحفاظ على الحياة في بيئة قاحلة، وكان تاريخ الشروع في اعتماد هذه القنوات أو "البوكيوس" محل جدل بسبب المواد المستخدمة في بنائها إلا أن ذلك تم في العموم بدءا من فترة "نازكا" المتوسطة. 

ويتكون نظام الري من قنوات تحت أرضية والتي تعرف باسم "البوكيوس" كما سبقت الإشارة والتي تم استغلالها في المياه الجوفية، وكانت القنوات تحفر في سفوح الجبال إلى أن تصل إلى المياه الجوفية وكانت تصفف بالصخور النهرية ولم يتم استخدام الملاط حتى تمر المياه إلى القنوات لأغراض الزراعة أو لإيداع المياه في خزانات صغيرة لاستخدامها لاحقا، وكانت توضع العديد من الثقوب أو العيون على طول سطح القنوات والتي كانت تعمل بنفس طريقة المطابق حاليا، وكان الناس ينزلون إلى القنوات باستمرار لإزالة العوائق أو لإصلاحها. 

وبقيت العديد من القنوات قيد الاستخدام حتى وقتنا الحاضر مما يشهد على أهميتها في تلك البيئة القاحلة، لكن مع الاستخدام الحديث قام الناس بتعديلها لتعمل بكفاءة أكثر وشملت التعديلات تركيب مضخات آلية، وفي بعض الأحيان، تبطين الخزانات بالخرسانة من أجل الحفاظ على المياه بشكل أفضل، وتوجد بعض أفضل تلك القنوات في "كانتالوك". 
صنبور مزدوج، وعاء المقبض الجسري، متحف "بروكلين".

وقد تميزت حضارة "نازكا" كذلك بفخارها متعدد الألوان الجميل المطلي بما لا يقل عن 15 لونا مميزا، وكان التحول من أسلوب الرسم الصمغي بعد التعرض للنار إلى أسلوب الرسم الدهاني قبل التعرض للنار بمثابة نهاية للفخار على طراز حضارة "باراكاس" وبداية الفخار على طراز حضارة "نازكا"، وشملت الأشكال الفخارية الرئيسية الأوعية الجسرية والصنابير المزدوجة والزبديات والأكواب والمزهريات والأشكال الدميوية والمخلوقات الأسطورية، ويوضح علماء الآثار أن الفخارات عالية القيمة لم تكن حكرا على النخبة وحدها بل كان في مقدور عامة الناس الحصول عليها من خلال الولائم والحج إلى "كاهاواتشي". وتم تقسيم تسلسل فخار "نازكا" إلى تسعة مراحل، حيث أدرجت الصور المرسومة على الفخارات في المرحلة الأولى مواضيع واقعية مثل الفواكه والنباتات والناس والحيوانات، وزادت أهمية هذه الواقعية في المراحل الثلاثة الموالية المشار إليها باسم المراحل الأثرية، وفي المرحلة الخامسة حدثت طفرة كبيرة تم فيها إضافة الأشعة والأشكال الحلزونية وغيرها على العناصر الخارقة للطبيعة في الأوعية، وتسمى هذه المرحلة بالانتقالية لأنها سجلت التغيير في الأسلوب وفي المحتوى، وشملت المرحلتين السادسة والسابعة بعض العناصر السابقة لكنها أكدت أيضا على العناصر العسكرية، مما يشير إلى تحول في التنظيم الاجتماعي، واشتملت الزخارف في هذه المرحلة على عناصر مجردة كجزء من التصميم، وأضيفت الكثير من الأشعة والشرابات إلى الصور التي تعكس موضوعات أسطورية بالخصوص، وتظهر الرسوم الموجودة على الفخار في هذه الفترة أيضا التأثر بحضارة "موش" في شمال ساحل "بيرو"، وأخيرا، شهدت "نازكا" في المرحلة الثامنة إدخال أشكال مفككة تماما وهندسات أيقونية يصعب فك رموزها، ويعتقد أن المرحلتين الثامنة والتاسعة تعودان إلى الأفق الأوسط مما يعكس انتقال السلطة من الساحل إلى المرتفعات مع ظهور حضارة "واري" حوالي 650 م. 
وعاء الكركند الدميوي، المرحلتين الثالثة والرابعة.

ولم يكن لدى شعب "نازكا"، كسائر المجتمعات ما قبل الكولومبية في أمريكا الجنوبية بما في ذلك "الإنكا" نظاما للكتابة، وعلى عكس "المايا" في أمريكا الوسطى كانت الأيقونات ومختلف الرموز على السيراميك وسيلة للاتصال، وتنقسم الزخارف المرسومة على فخار "نازكا" إلى فئتين رئيسيتين: فئة مقدسة وأخرى مدنسة، فقد آمن شعب "نازكا" بأرواح الطبيعة القوية التي كان يعتقد أنها تسيطر على معظم جوانب الحياة، وصورت هذه الأرواح في شكل كائنات أسطورية ومخلوقات لها مجموعة من الخصائص البشرية والحيوانية في نفس الآن من قبيل الطيور والأسماك، وقام أفراد "نازكا" برسمها على الفخار، وشملت هذه المخلوقات أصنافا عدة مثل الكائنات الأسطورية المجسمة والطيور الرهيبة والحوت الأسطوري القاتل إضافة إلى مشاهد الحروب وقطع الرؤوس والممارسات الطقوسية للرؤوس المغنومة من قبل الشامانات. 
عباءة من "نازكا"، المدينة الجنائزية "لباراكاس"، ما بين 1 و 100م، والتصميم يعكس صور أسماك مزدوجة (على الأرجح أسماك القرش) مجموعات متحف "بروكلين".

إضافة إلى ما تقدم، اشتهرت حضارة "نازكا" بمنسوجاتها المعقدة تقنيا، وكانت هذه المنسوجات على الأرجح تحاك من قبل النساء في مساكنهن من الصوف والقطن بواسطة النول الخلفي وهي الطريقة المعمول بها في المنطقة إلى اليوم، وقد تم نسج الأقمشة بزخارف شائعة قبل ظهورها في الفخار، وحافظت الصحراء الجافة على نسيج حضارتي "نازكا" و "باراكاس" على حد سواء والتي تضم معظم ما يعرف عن المنسوجات المبكرة في تلك المنطقة. 

وتم العثور كذلك على الشالات والفساتين والسترات والأحزمة والحقائب وغيرها من خلال الحفريات في "كاهاواتشي" وأماكن أخرى، ومعظم المنسوجات المرتبطة بحضارة "نازكا" اشتملت على الملابس التي كانت تضم إلى المرفقات الجنائزية في المدافن، وكان يتم لف كل الجسم تقريبا بالنسيج كجزء من طقوس الدفن، وغالبا ما كان يتم العثور على أكوام من العظام ملفوفة في ثوب من المنسوجات، واحتوت ودائع الفساتين والشالات على الملابس الراقية (مع الريش والرسم والتطريز) والملابس العادية أيضا مما يعطي انطباعا بأدوار ومسؤوليات اجتماعية مختلفة. 
رأس مغنومة لحضارة "نازكا".

وكانت عملية النقب عملية جراحية بدائية في الجمجمة استخدمها شعب "نازكا" لغرض تخفيف الضغط على الدماغ جراء الجروح الناتجة عن المعارك أو لأغراض طقوسية، وكانت هذه العملية تستلزم إزالة جزء أو أكثر من أجزاء العظام على الجمجمة ـ بينما لايزال الشخص على قيد الحياة ـ ، وقد شوهدت أدلة على النقب من خلال تحليل الجماجم المحفورة، وأظهرت بعض الجماجم علامات على الشفاء مما يدل على أن بعض الأفراد الذين خضعوا لهذه الجراحة قد نجوا. 
تمثيل لمحارب يحمل رأسا مغنومة.

كما شوهدت جماجم ممدودة نتيجة لإعادة تشكيل الجمجمة، وما استنتجه العلماء من خلال الحفريات التي أجريت في "كاهاواتشي" أنه تم تحقيق هذا التأثير عبر ربط وسادة بجبهة الرضيع ولوحة على الجزء الخلفي من الرأس، وتشير العديد من النظريات إلى أن إعادة تشكيل الجمجمة كانت الغاية منه خلق هوية عرقية أو من أجل توضيح وضع اجتماعي معين.
المرجع:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ثقافة بازيريك

هي ثقافة تنتمي إلى الحضارة السكيثية البدوية التي تنتمي إلى العصر الحديدي الممتد من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تم التعرف ...